كما ظننت ، إنّما هو ولّى من أولياء الله تعالى ، عظمت زفرته ، واشتدت حسرته ، وارتفع صوته ، وعلا نحيبه .. قال مالك : فلما سمعت الهاتف الذي هتف بى هدأ روعى ، وردّت إليّ روحى ، وعدت إلى طريقى راجعا ، وإذا أنا بشابّ قد أذابته العبادة حتى عاد كالخلال (١) ، فسلمت عليه ، فردّ علّى ، فأخبرته بعطشى ، وقد لحقنى منه هيبة عظيمة ، فنظر إليّ وقال : يا مالك ، أما وجدت فى البريّة نقطة ماء؟ ثم قام إلى صخرة فى الجبل فضرب بها برجله وقال : اسقنا ماء بقدرة من يحيى العظام وهى رميم ، فإذا أنا بالماء ، فشربت حتى رويت ، ثم قلت له : أوصنى بشىء أنتفع به .. فقال : يا مولاى ، كن لمولاك فى الخلوات حتى يسقيك الماء من الصخرة فى الفلوات .. ثم أنشد وجعل يقول :
أهل المحبّة ما نالوا الذي قصدوا |
|
حتى لمولاهم فى الخلوة انفردوا |
تراهم الدّهر لا يمضون من بلد |
|
إلّا ويبكى عليهم ذلك البلد |
لا يعطفون على أهل ولا ولد |
|
ولا ينامون إن كان الورى رقدوا |
فالذّكر مطعمهم ، والشّكر مشربهم |
|
والوجد مركبهم من أجل ذا سعدوا |
لا يبرحون على أبواب سيّدهم |
|
ولا يريدون إلّا من له عبدوا |
فالشّوق يضرم نارا فى قلوبهم |
|
ونارهم فى ظلام اللّيل تتّقد |
مساجد الله مأواهم ومسكنهم |
|
وعيشهم فى حماه طيّب رغد |
حكى عن ذى النون المصرى رضى الله عنه ، أنه قال : وصفت لى جارية متعبدة ، فأحببت لقاءها ، فخرجت إلى الجبل أطلبها ، فلم أرها ، فلقيت جماعة من المتعبدين ، فسألتهم عنها ، فقالوا : تسأل عن المجانين وتترك العقلاء؟ قال ذو النون : فقلت لهم : دلّونى عليها ، فإن كانت مجنونة تركتها. فقالوا : إنّا نراها مرّة تجوز بنا تقع ، ومرة تقوم ، ومرة تصيح ، ومرة تضحك ، ومرة
__________________
(١) أى : كالعود الرفيع.