يزعج القلوب ، وحنين يذهل العقول : «كتمت بلائى من غيرك ، وبحت بسرّى إليك ، واشتغلت بك عمّن سواك». ثم انتحب بالبكاء وقال : «عجبت لمن عرفك ، كيف يسلو عنك؟ ولمن ذاق حبّك ، كيف يصبر عنك؟ يا مسرى العارفين ، وحبيب المقربين ، وأنيس المحبين ، وغاية أمل الطالبين ، ومعين المنقطعين». ثم صاح : «وا شوقاه! وا كرباه!».
فتتبعت الصوت وقد أخذ بمجامع قلبى حتى انتهيت إليه ، فإذا هو شيخ نحيف الجسم ، مصفر اللون ، تعلوه الهيبة ، ويجلّله الوقار ، وعليه سيما (١) أهل المعرفة ، فدنوت منه وسلّمت عليه ، فقال : مرحبا بك يا أبا عمرو! فقال : وكيف عرفت اسمى وما رأيتنى قبل هذه الساعة؟ فقال : نظرت إلى شخصك فى الأرض فعرفت مقامك فى السماء ، وقرأت اسمك فى اللّوح المحفوظ! فقلت له : يا سيدى ، أفدنى فائدة. فقال : «يا أبا عمرو ، أوحى الله عزّ وجلّ إلى نبيّه داود ، صلوات الله على نبينا وعليه وسلامه : يا داود ، قل لأوليائى وأحبّائى : ليفارق كلّ منكم صاحبه ، فإنى مؤنسهم بذكرى ، ومحدّثهم بأنسى ، وكاشف الحجاب فيما بينى وبينهم لينظروا عظمتى وجلالى وبهاء وجهى ، فى كل يوم أدنيهم ، وفى كل ساعة أقربهم من نور وجهى ، وأذيقهم من طعم كرامتى ، فإذا فعلت ذلك عميت هويّتهم عن الدنيا وأهلها ، فما شىء آنس إليهم منّى ، ولا أقرّ لعيونهم من النّظر إلىّ ، يستعجلون القدوم علىّ ، وأنا أكره أن أميتهم ، لأنهم مواضع نظرى من بين خلقى ، أنظر إليهم وينظرون (٢) إلىّ ، فلو رأيتهم يا داود ، وقد ذابت نفوسهم ، ونحلت أجسامهم ، وخشعت عيونهم ، وتهشمت أعضاؤهم ، وانخلعت قلوبهم إذا سمعوا بذكرى ، فأباهى بهم ملائكتى وأهل سماواتى ، ينظرون إلىّ فيزدادون
__________________
(١) السّيما : العلامة. وفى «م» : «سيمة».
(٢) فى «م» : «وينظروا» لا يصح.