وكان لعفّان مكان مرتفع يجلس فيه ، فجلس فيه فى بعض الأيام ، وجاءت له أحمال فوضعت فى الطريق وهو ينظر إليها ، فجاء رجل فقير معه إناء فيه شىء من «النيدة» فعثر بعدل (١) فسقط الإناء من يده وتبدّد ما فيه ، فبقى باهتا. فاستحضره عفّان وقال له : ما دهاك يا رجل؟ قال : يا سيدى أنا رجل فقير ، أعمل فى كل يوم بدرهم وربع درهم ، وأشترى خبزا بذلك لعيالى ، فلما كان اليوم اشتهى الصّبية شيئا حلوا ، فاشتريت لهم هذه «النيدة» التى سقطت بما عملت ذلك اليوم ، فدهشت لذلك ، فلا أنا بالذى أبقيت ثمن الخبز ، ولا أنا بالذى قضيت شهوة الصّبية.
فبكى عفان وقال له : اذهب فكلّ عدل وجدته ملوّثا بشىء من «النّيدة» فخذه. فنزل الرجل إلى الأعدال فوجد «النيدة» قد وقعت على عدل واحد. فأخذه ومضى.
وقيل : إنه بعد هذا كله ، وهذه العطايا (٢) لمّا حانت وفاته قال لصاحب له : إذا أنا متّ ، فخذ ابنتى هذه ـ ولم يكن له سواها ـ فاتركها فى المسجد وخلّ سبيلها ، فإنّها وديعتى عند الله تعالى.
فلمّا توفى فعل صاحبه كما أمر (٣) ، فاتّفق أنّ محظيّة من حظايا أمير المؤمنين الخليفة الفاطمى ، دخلت إلى الجامع متنكرة فى زىّ العوام بقصد الفرجة ، فلما رأتها جلست بإزائها طويلا ، وانتظرت من يطلبها ، فما وجدت أحدا ، فقالت لها : ألك والد أو والدة؟ قالت : لا. فأخذتها ومضت بها
__________________
(١) النيدة : نوع من الحلوى .. والعدل : الحمل.
(٢) هكذا فى «ص» .. وفى «م» : «بعد هذا الإعطاء».
(٣) فى «ص» : «ففعل ذلك وتركها فى الجامع».