وهاجر طائعا ، وعاش مجاهدا ، وابتلى فى جسمه آخرا ، ألا ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا .. ثم مضى ، فإذا قبور ، فجاء حتى وقف عليها فقال : السلام عليكم أهل الديار الموحشة ، والمحالّ المقفرة ، أنتم لنا سلف ، ونحن لكم تبع ، وبكم عمّا قليل لا حقون .. اللهم اغفر لنا ولهم ، وتجاوز عنا وعنهم ، طوبى لمن ذكر المعاد ، وعمل للحساب ، وقنع بالكفاف ، ورضى عن الله تعالى.
ثم قال : يا أهل القبور ، أمّا الأزواج فقد نكحت ، وأمّا الديار فقد سكنت ، وأمّا الأموال فقد قسّمت .. فهذا خبر ما عندنا ، فما خبر ما عندكم؟ .. ثم التفت إلى أصحابه فقال : أما إنهم لو تكلّموا لقالوا : وجدنا خير الزّاد التقوى.
وخطب رضى الله عنه مرة فقال : أيها الناس ، اعلموا أنكم ميتون ، ومبعوثون من بعد الموت ، وموقوفون على أعمالكم ، ومجزيّون عليها ، فلا تغرّنّكم الحياة الدنيا ، فإنها بالبلاء محفوفة ، وبالفناء معروفة ، وبالغدر موصوفة ، وكلّ ما فيها زوال ، وهى بين أهلها دوال وسجال (١) ، لا تدوم أحوالها ، ولن يسلم من شرّها نزلها ، بينا أهلها منها فى رخاء وسرور إذ هم منها فى بلاء وغرور ، أحوال مختلفة ، العيش فيها مذموم ، والرخاء فيها لا يدوم ، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها ، وتقصدهم بحمامها ، وكلّ حتف فيها مقدور ، وحظه فيها موفور ، واعلموا عباد الله ، وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ، ممّن كان أطول منكم أعمارا ، وأشدّ منكم بطشا ، وأعمر ديارا ، وأبعد آثارا ، فأصبحت أصواتهم خامدة ، وأجسامهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية .. استبدلوا القصور المشيدة ، والنمارق
__________________
من الصحابة.
[انظر ترجمته فى الأعلام ج ٢ ص ٣٠١ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ١١٤ ـ ١١٧ ، وحلية الأولياء ج ١ ص ١٤٣ ـ ١٤٧ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٢٧٣ و ٢٧٤].
(١) دوال وسجال ، أى : تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، تنتقل من حال إلى حال.