وقد كان أصحاب الشرائع ، وأنصارها ، وفي مقدمتهم علماء الإسلام ، وكتابهم محتفظين بهذا الأصل ، معتصمين به أشد الاعتصام ، مؤكدين عليه في كتاباتهم غاية التأكيد باعتباره ميزة الشرائع الإلهية ، وقوامها ، والفارق الجوهري بينها وبين الأنظمة والآيديولوجيات الأرضية البشرية.
غير أنّ الحضارة المادية الحديثة التي اعتمدت على الحس والتجربة ، وأعطت كل القيمة والوزن لما أيّدته أدوات المعرفة المادية ، أدهشت بعض المفكرين المسلمين ، فوجدوا أنفسهم في صراع عنيف بين الإيمان بالغيب باعتباره عنصراً أساسياً في الدين ، وبين الحضارة المادية الحديثة التي لا تعتمد إلاّ على الحس والتجربة ، وربّما لم يتجرّأوا على إنكار ما هو خارج عن إطار أدوات المعرفة المادية ، فلم يقدروا على الانحياز إلى أي واحد من الطرفين ، فلو صاروا إلهيين مطلقاً لوجب عليهم مقابلة الماديين المنكرين لعالم الغيب ، ولو انحازوا إلى جانب الماديين لانخرطوا في صفوف الملحدين ، ولذلك اختاروا طريقاً وسطاً ، وهو تأويل بعض ما ورد في مجال الغيب عامّة ، والمعاجز والكرامات خاصة ، وزعموا أنّهم يستريحون بهذا التأويل ، ويرضون كلتا الطائفتين.
وممن سلك هذا الطريق بعض السلوك الشيخ المصلح « محمد عبده » والسيد سير « أحمد خان » الهندي ، و « طنطاوي جوهري » ، وتلامذة هذه المدرسة.
ولكي لا يحمل القارئ كلامنا هذا على القسوة والتحامل على أحد نأتي فيما يلي بنماذج من كتابات أصحاب هذه المدرسة ، ونختارها ممّا كتبه السيد محمد رشيد رضا منشئ « المنار » تقريراً لدروس الأستاذ الامام الشيخ « محمد عبده » في التفسير ، ونكتفي ـ في هذا الاقتباس ـ على ما ضبطه حول سورة البقرة فقط ، ونحيل البحث المفصّل حول هذا التفسير المنشور في أحد عشر جزءاً إلى وقت آخر.