المدلول ونوع الدليل :
قدمنا عند تفسير الآية ١١١ : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ان كل دعوى تحتاج الى دليل ، وان الدليل يحتاج الى دليل ، حتى ينتهي الى أصل عام واضح بذاته ، لا يختلف فيه اثنان ، ونتكلم في هذه الفقرة عن نوع الدليل :
وهو يختلف باختلاف طبيعة الشيء المتنازع عليه ، فإذا أردنا ـ مثلا ـ أن نعرف المواد التي يحتوي عليها جرم من الأجرام الطبيعية اعتمدنا التجربة والمختبر ، وإذا أردنا أن نثبت وجود مدبر حكيم وراء الكون رجعنا الى العقل ، أو معرفة حكم من أحكام الشريعة الاسلامية استندنا الى الكتاب والسنة ، أو معرفة اللغة ومداليل الألفاظ تحتم الرجوع الى العرف واصطلاح العرب الأوائل ، وإذا كان هناك مسألة قانونية رجعنا الى القانون ، أو تاريخية رجعنا الى علماء الآثار والرواة الثقات .. وهكذا تختلف نوعية الدليل باختلاف طبيعة الحادثة التي يراد إثباتها ، وليس لأحد كائنا من كان أن يقترح من عندياته نوع الدليل ، أو يطلب المزيد من الإثبات بعد أن استكمل الاستدلال جميع العناصر الموجبة لليقين والاقناع.
وعلى هذا ، فإذا قام الدليل الكافي الوافي الذي استدعته طبيعة المدلول ، ثم اقترح مقترح دليلا سواه ، أو المزيد من الاستدلال فهو مكابر لجوج يضرب بطلبه واقتراحه عرض الحائط .. وقد تحدى محمد (ص) بالقرآن المشككين والمعاندين وثبت عجزهم وخذلانهم ، وتمت الحجة عليهم ، فإذا طلبوا الزوائد بعد العجز الفاضح كان طلبهم هذا من باب العناد واللجاج ، إذ لو كان غرضهم الحق بما هو حق لاقتنعوا به ، وأذعنوا له بعد أن ظهر بأكمل صوره وأجلاها.
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ). هذا تحديد لوظيفة النبي ومهمته ، وانه معلم ، لا مسيطر ، ومبين للحق ، لا مكره عليه ، فالآية تجري مجرى قوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ـ الكهف ٢٩». وفي الآية تسلية للنبي (ص) لئلا يضيق صدره بكفر من كفر ، وعناد من عاند.