صفحات بالقطع الكبير ، أما صاحب المنار فشرحها باثنتين وعشرين صفحة ، وترك القارئ العادي في متاهة لا يهتدي الى شيء .. ونحن على منهجنا من الرفق بالقراء مهتمين بأضعفهم ما أمكن واقفين معه عند مداليل الألفاظ ، نشرحها بأوضح واخصر بيان ، كي يتدبر آيات الله بسهولة ، وتؤثر أثرها في نفسه ، فان كان هناك موضوع هام أشرنا اليه بفقرة مستقلة.
(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً). أي كانوا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، والتي أشار اليها النبي (ص) بقوله : كل مولود يولد على الفطرة. قال صاحب مجمع البيان : «روى أصحابنا عن الإمام أبي جعفر الباقر : انهم كانوا قبل نوح (١) أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالين ، فبعث الله النبيين. وعلى هذا فالمعنى انهم كانوا متعبدين بما في عقولهم غير مهتدين الى نبوة ، ولا شريعة».
ثم عرض على فطرتهم التخيلات والأوهام ، وجرتهم هذه الأوهام الى الاختلاف في العقيدة والرأي ، وبالتالي الى اعتداء بعضهم على بعض ، فتفرقوا شيعا بعد أن كانوا أمة واحدة ، فأرسل الله الأنبياء ، ومعهم الكتاب ينطق بالحق ، ويحكم بالعدل ، ليحتكموا اليه في خلافاتهم ومنازعاتهم .. وهذا هو المعنى الظاهر من قوله تعالى :
(فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) .. وبهذا يتبين ان في الكلام جملة محذوفة ، والتقدير كان الناس أمة واحدة فاختلفوا ، بدليل قوله تعالى (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، وتؤكد ذلك الآية ١٩ من سورة يونس : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا).
(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ). أي ان الناس الذين كانوا أمة واحدة ثم اختلفوا فأرسل الله اليهم الأنبياء ، ان أولئك الناس أيضا اختلفوا فيما أرسل به الأنبياء ، فمنهم من آمن وصدق ، ومنهم من كفر وكذّب بعد أن قامت الأدلة والبراهين ، والحجة القاطعة على
__________________
(١) جاء في تفسير روح البيان عن الأكثر ان بين آدم ومبعث نوح ثماني مائة سنة.