(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). عند تفسير الآية ٢٣ ـ ٢٥ من سورة البقرة ، المجلد الأول ص ٦٥ ، فقرة «سر الاعجاز في القرآن» تعرضنا لهذا السر على سبيل الإجمال ، لأن التفصيل يستغرق كتابا في حجم هذا المجلد .. وبعد ان مضينا في التفسير اكتشفنا أسرارا لإعجاز القرآن لم يتنبه اليها من سبق من علماء المسلمين ، حتى الذين ألفّوا كتبا خاصة في اعجاز القرآن ، وما كان هذا عن قصور أو تقصير منهم .. حاشا ، ولكن كتاب الله لا تنقضي أسراره وعجائبه : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) ـ ١١٠ الكهف».
وقد أصاب من هذه الكلمات كل بقدر ما أسعفه عصره ومواهبه ، فان الزمان عنصر فعال في الكشف عن معاني القرآن وأسراره ، قال ابن عباس : «في القرآن معان سوف يفسرها الزمان». ومن هذه المعاني ما أومأت اليه الآية ٥٣ من هذه السورة : (أَمْ لَهُمْ) ـ أي لليهود ـ (نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً). وذكرنا عند تفسيرها وتفسير الآية ٤٦ من السورة نفسها تنبؤ القرآن بفظائع اليهود وجرائمهم إذا ملكوا ، وبعد نيف وثلاثة عشر قرنا تحقق هذا التنبؤ ، وهذا دليل قاطع على نبوة محمد (ص) وصدق رسالته .. وهذا هو الاعجاز الذي أردناه من قولنا : لم يتنبه اليه العلماء والمفسرون ، لأن اليهود كانوا آنذاك أذلاء محكومين ، لا نصيب لهم من الملك في فلسطين ولا في غيرها.
ومن جملة الأدلة على ان القرآن وحي من الله قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) من هذا الاختلاف عدم التناسق والتناسب في أقوال البشر أسلوبا وتفكيرا ... فما من عالم أو أديب أو أي انسان إلا ويختلف قوة وضعفا في تعبيره وتفكيره ، أما القرآن فهو على مستوى واحد في بلاغة أسلوبه ، وعظمة معانيه.
والسر ان للإنسان ظروفا وحالات تختلف وتتغير من حين الى حين ، بل من لحظة الى لحظة ، وهو تابع لها يتقلب بحسبها ، ولا ينفك تغيره عن تغيرها