المعنى :
لقد كثر الكلام حول المائدة وطلابها : هل كانوا مؤمنين أو مشككين؟ وهل نزلت المائدة بالفعل ، أو انها لم تنزل ، لأن الحواريين عدلوا عن طلبها بعد أن هددهم الله بقوله : «فمن كفر منكم فاني معذبه عذابا لا أعذبه أحدا». ومع افتراض نزولها فعلى أية حال نزلت؟ وما هي أصنافها وألوانها؟ ثم هل مسخوا بعدها قردة وخنازير ، لأن بعضهم سرق منها؟ .. إلى غير ذلك من القول على الله من غير علم.
ونقف نحن في حديثنا عن هذه الآيات الأربع عند مدلول كلماتها وما يتصل به.
الآية الأولى : (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين). وتومئ هذه الآية إلى أن الحواريين ما كانوا مؤمنين بعيسى عند ما طلبوا منه هذه المائدة ، لأنهم في غنى عنها مع التصديق والتسليم ، والذي يؤكد ذلك قولهم : (هل يستطيع ربك) فانه يشعر بالتشكيك في قدرة الله .. مع ان الآية السابقة قد شهدت لهم بالايمان (وإذ أوحيت إلى الحواريين ان آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا) .. هذا ، إلى أن لفظ الحواريين يدل بنفسه على إيمانهم بعيسى وإخلاصهم له ، فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟
وأجاب كثير من المفسرين بأن سؤالهم هذا لا يتنافى مع إيمانهم ، لأن القصد منه الايمان عن طريق الحس والعيان بعد الايمان عن طريق العقل والبرهان ، وبكلمة القصد تقوية الايمان وتثبيته ، تماما كما قال ابراهيم الخليل (ع) : «ولكن ليطمئن قلبي» .. وقد أفصح الحواريون عن هذا القصد بدلالة قوله في الآية الثانية : «وتطمئن قلوبنا» جوابا على قول عيسى لهم : «اتقوا الله إن كنتم مؤمنين». أما قولهم : «هل يستطيع ربك» فمعناه هل يستجيب ربك إن سألته أن ينزل علينا مائدة السماء.
الآية الثانية : (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم ان قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين). يريدون أن يأكلوا ليؤمنوا ويعلموا ، أو يريدون أن يأكلوا ليقوى ويرسخ الايمان في قلوبهم ، والعلم في عقولهم ، كما قدمنا ، ثم