من الآية التي نحن بصددها. النوع الثاني : يقولون ويعتقدون ولكنهم يعصون ولا يفعلون ، أي يؤمنون نظريا لا عمليا. النوع الثالث : يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، وهم المنافقون ، والآية تشمل النوع الثاني والثالث ، ولا تختص بالمنافقين فقط ، كما قيل. لأن الايمان بلا عمل لا يجدي نفعا بدليل قوله تعالى : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) ـ ١٥٧ الانعام.
(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ). قال أكثر المفسرين : وقعت خصومة بين منافق ، ويهودي على أرض ، فقال المنافق : أخاصمك الى كعب الأحبار اليهودي لعلمه بأنه يقبل الرشوة .. وقال اليهودي : بل نتحاكم عند محمد (ص) ليقينه بأنه لا يقبل الرشوة. فرفض المنافق ، فنزلت الآية ، وسواء أصحت الرواية أم لم تصح فإنها أوضح تفسير للآية.
(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ). انهم لا يعرفون الحق إلا إذا وافق أهواءهم ، فإن خالفها تنكروا له. وهذه الأنانية البشعة الجشعة لا تختص بالمنافقين وحدهم ، فإنها تطبع أيضا حياة الكثير من المؤمنين ، أو الذين يرون أنفسهم مؤمنين .. انهم يجاهرون بالحق : وينكرون الباطل ، ولكن أي باطل ينكرون؟ وبأي حق يجاهرون؟ ان الحق في مفهومهم وإيمانهم ما يتفق مع مصلحتهم ، والباطل ما يخالفها ، ولكنهم يذهلون عن باطن أنفسهم وواقعهم .. هم يؤمنون بأنهم لا يفعلون إلا الحق ، ولا ينطقون إلا بالصدق ، وفي الوقت نفسه لا ينبعثون ولا يتحركون إلا بدافع من أهوائهم ومصالحهم.
وهؤلاء أسوأ حالا من المنافق الذي يخدع الناس ، ولا تخدعه نفسه لأنه على يقين من كذبه وريائه ، أما أولئك فإنهم يسيئون وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا .. ولا يظلمهم من ينفي عنهم صفة الإيمان لأن المؤمن حقا لا ينخدع بحيل الشيطان وأباطيله ، ويتهم نفسه إذا زينت له عملا من أعماله .. فإن الشيطان لا مهمة له إلا أن يزين للناس سوء أعمالهم ، وإلا ان يريهم الباطل حقا ، والضلال صلاحا ..