(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ). من تأمل في أيّ كائن من الكائنات ونظر اليه نظرة الفاحص المدقق لا بد أن ينتهي إلى التساؤل : من الذي دبّر وأحكم هذا الصنع؟. ولا يجد جوابا مقنعا وتفسيرا صحيحا إلا وجود قوة عالمة هادية. وإذا لم يقتنع بهذا الجواب فلا يجد أمامه إلا الصدفة والطبيعة العمياء ، وليس من شك انها تزيده جهلا وعمى.
وقال الماديون : لا طريق إلى المعرفة إلا الحس والتجربة ، والله لا يقع تحت الحس ولا هو موضوع للتجربة ، فالإيمان به ـ إذن ـ لا يستند إلى دليل ، بل هو جهل وضلال.
الجواب أولا : لا نسلم ان أسباب المعرفة تنحصر بالحس والتجربة ، بل هناك أيضا معرفة عقلية نصل اليها عن طريق القوى الذهنية ، ومن أسقط العقل عن الاعتبار ونفى الحجة عنه فقد نفى الانسانية من الأساس ، إذ لا انسانية بلا عقل حاسم قاطع .. يضاف إلى ذلك إلى ان من نفى المعرفة عن العقل فقد ناقض نفسه بنفسه حيث نفى معرفة العقل بالعقل ، واستدل على عدم الشيء بوجوده.
ثانيا : لو سلمنا ـ جدلا ـ بأنه لا طريق إلى المعرفة إلا الحس والمشاهدة فإننا نثبت وجود الله ونؤمن به عن هذا الطريق بالذات .. وهو موجود في كل مشهد من مشاهد الطبيعة ، وقد بلغت هذه المشاهد النهاية من البداهة والوضوح ، وأوصلتنا إلى العلم بالمبدع المصور بمجرد النظر اليها والتأمل فيها بدون الرجوع إلى المختبرات والمصانع .. ولو توقف العلم بالله على التحليل في المختبرات لا نحصر وجوب الايمان بالمتخصصين بهذا الفن وحدهم ، ولما صح منه تعالى علوا كبيرا أن يخاطب العموم بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) مع العلم بأنه ، جلت عظمته ، أوجب الايمان به على جميع عباده .. ولكن بعد أن قدم لهم الدليل القاطع لكل معذرة على وجوده ، أقام سبحانه هذا الدليل من الفطرة والعقل ومن الحس أيضا عملا بالمبدأ العادل القائل : «البينة على من ادعى».