الحادثة هو ظهور جبريل مرتين لرسول الله (ص) على الصورة التي خلقه الله عليها لا على الصورة التي اعتاد النبي أن يراه فيها حين يبلّغه الوحي. وقد كثّر المفسرون الكلام حول هذه الآيات ، وأطنب بعضهم في أوصاف جبريل وأجنحته بلا حجة ودليل ... أما نحن فنقتصر على ما يدل عليه ظاهر اللفظ ولا يأباه العقل غير ملتزمين بقول راو أو مفسر إلا على هذا الأساس ، والله المستعان :
١ ـ (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى). علّمه أي بلّغه ، والضمير يعود الى صاحبكم ، وهو محمد (ص) ، والمفعول الثاني لعلمه محذوف أي الوحي ، وشديد القوى فاعل علمه ، وهو جبريل (ع) ، والمراد بالقوى هنا الصفات التي تؤهل جبريل لتبليغ الوحي كالحفظ والأمانة والدقة في الأداء حتى كأن النبي (ص) يسمع الوحي من الله مباشرة ، والدليل على ان المراد بالقوى الحفظ والأمانة قوله تعالى في وصف جبريل : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) ـ ١٩٣ الشعراء. وأيضا كلمة علمه تومئ الى ذلك. وعليه يكون المعنى ان جبريل القوي الأمين بلّغ محمدا الوحي على حقيقته تماما كما هو في علم الله.
٢ ـ (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى). ذو مرة صفة لجبريل ، والمراد بالمرة بكسر الميم الهيئة والصورة ، واستوى استقام ، والمعنى ان جبريل ظهر للنبي (ص) مستويا كما خلقه الله.
٣ ـ (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى). ضمير هو لجبريل أي ان جبريل حين ظهر على صورته للنبي امتد مرتفعا في الجو ، وقال المفسرون : الأفق الأعلى مطلع الشمس أي المشرق ، والأفق الأدنى مغربها ، وعلى أية حال فإن القصد هو الإخبار عن جبريل بأن صورته امتدت في الجو ، ولا يهم أن يكون هذا الجو لجهة المشرق أو المغرب.
٤ ـ (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى). في كل من دنا وتدلى ضمير يعود الى جبريل ، ودنا أي قرب من النبي (ص) ، وتدلى نزل ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والأصل ثم تدلى فدنا ، والقاب المقدار ، والمعنى ان جبريل بعد أن ظهر للنبي كما خلقه الله ، وارتفع جسمه بالأفق ، بعد هذا عاد الى الصورة التي كان يلقى النبي بها حين يبلّغه الوحي ، وقرب منه حتى لم يكن