ثمّ برز من بعده غلام تركي للحسين عليهالسلام وكان قارئاً للقرآن ، موحّداً للعليّ الديّان ، فبرز وهو ينشد ويقول :
البحر من طعني وضربي يصطلي |
|
والجوّ من سهمي ونبلي يمتلي |
إذا حسامي في يميني ينجلي |
|
ليشف قلب الماجد المبجّل |
فقتل جماعة منهم ثمّ خرّ صريعاً ، فشدّ الحسين على قاتله وقال له : « قتلني الله إن لم أقتلك ». فضربه بالسيف على هامته أخرجه من شرايف صدره (١) ، ثمّ وقف على الغلام وبكى ، ووضع خدّه على خدّه ، ففتح الغلام عينيه فرأى الحسين عليهالسلام
__________________
له : « بديل بن صُرَيم » من بني عُقفان ، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع ، ونزل إليه التميمي فاهتزّ رأسه ، فقال له الحصين : إنّي لشريكك في قتله. فقال الآخر : والله ما قتله غيري. فقال الحصين : أعطنيه أعلّقه في عنق فرسي كيما يرى النّاس ويعلموا أنّي شركت في قتله ، ثمّ خذه أنت بعد فامض به إلى عبيد الله بن زياد ، فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إيّاه.
قال : فأبى عليه ، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا ، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر فجال به في العسكر قد علّقه في عنق فرسه ، ثمّ دفعه بعد ذلك إليه ، فلمّا رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلّقه في لبان فرسه ، ثمّ أقبل به إلى ابن زياد في القصر ، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب وهو يومئذ قد راهق ، فأقبل مع الفارس لا يفارقه كلّما دخل القصر دخل معه ، وإذا خرج خرج معه ، فارتاب به فقال : ما لك يا بُنيّ تتبعني ؟ قال : لا شيء. قال بلى يا بُنيّ ، أخبرني. قال له : إنّ هذا الرأس الذي معك رأس أبي ، أفتعطينيه حتّى أدفنه ؟ قال : يا بُنيّ ، لا يرضى الأمير أن يدفن وأنا أريد أن يصيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً. قال له الغلام : لكنّ الله لا يثيبك على ذلك إلّا أسوأ الثواب ، أما والله لقد قتلت خيراً منك. وبكى.
فمكث الغلام حتّى إذا أدرك لم يكن له همة إلاّ اتّباع أثر قتل أبيه ليجد منه غِرّة فيقتله بأبيه ، فلمّا كان زمان مصعب بن الزبير وغزا مصعب باجُميرا ، دخل عسكر مصعب ، فإذا قاتل أبيه في فسطاطه ، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غِرّته فدخل عليه وهو قائل نصف النهار ، فضربه بسيفه حتّى برد.
قال أبو مخنف : حدثني محمّد بن قيس قال : لما قتل حبيب بن مظاهر هدّ ذلك حسيناً وقال عند ذلك : « أحتسب نفسي وحماة أصحابي ».
(١) الشراسيف : أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن. ( لسان العرب )