زواهر ، وحصّلت فوائد بواطن وظواهر ، طالما كانت أعين الألبّاء لنيلها سواهر ، وجمعت من ذلك كلما عالية ، لو خاطب بها الداعي صمّ الجلامد (١) لانبجس حجرها ، وحكما غالية ، لو عامل بها الأيام ربح متجرها ، وأسجاعا تهتزّ لها الأعطاف ، ومواعظ يعمل بمقتضاها من حفّت به الألطاف ، وقوافي موقورة القوادم والخوافي ، يثني عليها من سلم من الغباوة والصّمم ، ويعترف ببراعتها من لا يعتريه اللّمم ، وطالما أعرض الجاهل الغمر بوجهه عن مثلها وأشاح ، وأنصت لها الحبر إنصات السّوار لجرس الحلي ونغم الوشاح ، وفرح إن ظفر بشيء منها فرح الصائد بالقنيص ، والساري العاري ذي البطن الخميص ، بالزاد والقميص وتركت الجميع بالمغرب ، ولم أستصحب معي منه ما يبيّن عن المقصود ويعرب ، إلّا نزرا يسيرا علق بحفظي ، وحلّيت (٢) بجواهره جيد لفظي ، وبعض أوراق سعد في جواب السؤال بها حظي ، ولو حضرني الآن ما خلّفته ، ممّا جمعت في ذلك الغرض وألّفته ، لقرّت به عيون وسرّت ألباب ، إذ هو ، والله ، الغاية في هذا الباب ، ولكن المرء ابن وقته وساعته ، وكلّ ينفق على قدر وسعه واستطاعته ، وعذر مثلي باد ، للمنصفين من العباد ، إن قصّرت فيما تبصّرت ، أو تخلّفت في الذي تكلّفت ، أو أضعت تحرير ما وضعت ، والتقمت ثدي التقصير ورضعت ، أو أطعت داعي التّواني فتأخّرت عمّن سبق وانقطعت ، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨] ، ومن كانت بضاعته مزجاة ، فهو من الإنصاف بمنحاة ، إذا أتى بالمقدور ، وتبرّأ من الدّعوى في الورود والصدور ، وعين الرّضا عن كل عيب كليلة ، والسلامة من الملامة متعذّرة أو قليلة ، وقد قال إمامنا مالك (٣) صاحب المناقب الجليلة : «كلّ كلام يؤخذ منه ويردّ إلّا كلام صاحب هذا القبر» صلّى الله عليه وسلّم أزكى صلاة وأتمّ سلام وشفى بجاهه من الآلام قلوبنا العليلة ، وجعلنا ممّن كان اتّباع سنّته رائده ودليله! آمين.
والحمد لله الذي يسّر لي هذا القدر ، مع ضيق الصدر ، وقلّة بضاعتي ، وكثرة إضاعتي ، فإنّ حمده جلّ جلاله تتضوّع به المطالب طيبا ، وتقضى ببركته المآرب فيرقى صاحبها على منبر القبول خطيبا ، وتعذب به المشارب فتنبت في أرض القرطاس ، من زاكي الغراس ، ما يروق منظرا نضيرا ويورق غصنا رطيبا ، وقد أتيت من المقال ، بما يقرّ إن شاء الله تعالى عين وامق ويرغم أنف قال ، وإن كنت ممّن هو في ثوب العيّ رافل ، وعن نسبته للقصور غير غافل ، وممّن جعل النفس هدفا ، وصيّر مكان الدّرّ صدفا ، إذ لسان الدين بن الخطيب إمام هذه الفنون ، المحقّق لذوي الآمال الظنون ، المستخرج من بحار البلاغة درّها المكنون ، وله اليد
__________________
(١) صمّ الجلامد : الصخور القاسية. وابجس حجرها : نبع منه الماء.
(٢) في ب : وحليت.
(٣) مالك : هو مالك بن أنس رضي الله عنه.