عيونها ، ويبست أنهارها ، وبادت أشجارها ، فهلك أكثرهم ، وفرّ من قدر على الفرار منهم ، فأقفرت الأندلس منهم ، وبقيت خالية فيما يزعمون مائة سنة وبضع عشرة سنة ، وذلك من حدّ بلد الفرنجة إلى حدّ بحر الغرب الأخضر ، وكان عدّة ما عمرتها هذه الأمة البائدة مائة عام وبضع عشرة سنة. ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة ، فدخل إليها بعد إقفارها تلك المدّة الطويلة قوم منهم أجلاهم ملك إفريقية تخفّفا منهم لإمحال توالى على أهل مملكته ، وتردّد عليهم حتى كاد يفنيهم ، فحمل منهم خلقا في السفن مع قائد من قبله يدعى «أبطريقس» فأرسوا بريف الأندلس الغربي ، واحتلّوا «بجزيرة قادس» ، فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت ، فجرت أنهارها ، وانفجرت عيونها ، وحييت أشجارها ، فنزلوا الأندلس مغتبطين ، وسكنوها معتمرين (١) ، وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ، ونصّبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم ، وهم ـ مع ذلك ـ على ديانة من قبلهم من الجاهلية ، وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية ، اخترعها ملوكهم وسكنوها ، فاتّسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ، ونسخهم بعجم رومة ، بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدّتهم تلك أحد عشر ملكا. ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم «إشبان بن طيطش» ، وباسمه سمّيت : الأندلس «إشبانية» ، وذكر بعضهم أنّ اسمه : «أصبهان» فأحيل بلسان العجم ، وقيل : بل كان مولده «بأصبهان» فغلب اسمها عليه ، وهو الذي بنى إشبيلية ، وكان «إشبانية» اسما خالصا لبلد «إشبيلية» الذي كان ينزله «إشبان» هذا ، ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله ، فالعجم الآن يسمّونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه ، وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدّنيا فيما زعموا ، وكان غزا الأفارقة عندما سلّطه الله عليهم في جموعه ، ففضّ عساكرهم ، وأثخن فيهم ، ونزل عليهم بقاعدتهم «طالقة» وقد تحصّنوا فيها منه ، فابتنى عليهم مدينة «إشبيلية» اليوم ، واتّصل حصره وقتاله لهم حتى فتحها الله عليه ، وغلبهم ، واستوت له مملكة الأندلس بأسرها ، ودان له من كان فيها ، فهدم مدينة طالقة ، ونقل رخامها وآلاتها إلى مدينة إشبيلية ، فاستتمّ بناءها ، واتّخذها دار مملكته ، واستغلظ سلطانه في الأرض ، وكثرت جموعه ، فعلا وعظم عتوّه ، ثم غزا «إيليا» ـ وهي «القدس الشريف» ـ من إشبيلية بعد سنتين من ملكه ، خرج إليها في السفن فغنمها وهدمها ، وقتل فيها من اليهود مائة ألف ، واسترقّ مائة ألف ، ونقل (٢) رخام «إيليا» وآلاتها إلى الأندلس ، وقهر الأعداء ، واشتدّ سلطانه ، انتهى.
__________________
(١) معتمرين : أي يريدون عمارة البلاد.
(٢) في ب : وانتقل.