ما كان فيهما في تلك الساعة ، وكذا لو تكلّف عند امتلائهما إفراغهما ولم يبق منهما شيئا ثم رفع يده عنهما خرج فيهما من الماء ما يملؤهما في الحين. وهما أعجب من طلّسم الهند ؛ لأن ذلك في نقطة الاعتدال حيث لا يزيد الليل على النهار ، وأما هاتان فليستا في مكان الاعتدال ، ولم تزالا في بيت واحد حتى ملك النصارى ـ دمّرهم الله! ـ طليطلة ، فأراد الفنش أن يعلم حركاتهما ، فأمر أن تقلع الواحدة منهما لينظر من أين يأتي إليها الماء ، وكيف الحركة فيهما ، فقلعت ، فبطلت حركتهما ، وذلك سنة ٥٢٨. وقيل : إن سبب فسادهما حنين اليهودي الذي جلب حمام الأندلس كلها إلى طليطلة في يوم واحد ، وذلك سنة ٥٢٧ ، وهو الذي أعلم الفنش أنّ ولده سيدخل قرطبة ويملكها ، فأراد أن يكشف حركة البيلتين فقال له : أيها الملك ، أنا أقلعهما وأردّهما أحسن ممّا كانتا ، وذلك أني أجعلهما تمتلئان بالنهار وتحسران في الليل ، فلما قلعت لم يقدر على ردّها ، وقيل : إنه قلع واحدة ليسرق منها الصنعة فبطلت ، ولم تزل الأخرى تعطي حركتها ، والله أعلم بحقيقة الحال.
وقال بعضهم في إشبيلية : إنها قاعدة بلاد الأندلس وحاضرتها ، ومدينة الأدب واللهو والطرب ، وهي على ضفة النهر الكبير ، عظيمة الشأن ، طيبة المكان ، لها البرّ المديد ، والبحر الساكن ، والوادي العظيم ، وهي قريبة من البحر المحيط ، إلى أن قال : ولو لم يكن لها من الشّرف إلّا موضع الشّرف المقابل لها المطل عليها المشهور بالزيتون الكثير الممتدّ فراسخ في فراسخ لكفى ، وبها منارة في جامعها بناها يعقوب المنصور ، ليس في بلاد الإسلام أعظم بناء منها. وعسل الشرف يبقى حينا لا يترمّل ولا يتبدّل ، وكذلك الزيت والتين.
وقال ابن مفلح : إن إشبيلية عروس بلاد الأندلس ؛ لأنّ تاجها الشرف ، وفي عنقها سمط النهر الأعظم ، وليس في الأرض أتمّ حسنا من هذا النهر ، يضاهي دجلة والفرات والنّيل ، تسير القوارب فيه للنزهة والسير والصيد تحت ظلال الثمار ، وتغريد الأطيار ، أربعة وعشرين ميلا ، ويتعاطى الناس السّرح من جانبيه عشرة فراسخ في عمارة متصلة ومنارات مرتفعة وأبراج مشيدة ، وفيه من أنواع السمك ما لا يحصى. وبالجملة فهي قد حازت البرّ والبحر ، والزّرع والضّرع ، وكثرة الثمار من كل جنس ، وقصب السكر ، ويجمع منها القرمز الذي هو أجلّ من اللّكّ (١) الهندي ، وزيتونها يخزّن تحت الأرض أكثر من ثلاثين سنة ، ثم يعتصر فيخرج منه أكثر ممّا يخرج منه وهو طري ، انتهى ملخصا.
__________________
(١) القرمز : نوع من المنّ الذي يجمع عن الشجر. واللّك : مادة شبيهة بالقرمز تدخل في تركيب الأدوية (ابن البيطار ٤ : ١١٠).