وقول لذريق : «إن هذه الصور هي التي رأيناها في بيت الحكمة إلخ» أشار به إلى بيت حكمة اليونان ، وكان من خبره ـ فيما حكى بعض علماء التاريخ ـ أن اليونان ، وهم الطائفة المشهورة بالحكم ، كانوا يسكنون بلاد الشرق قبل عهد الإسكندر ، فلما ظهرت الفرس ، واستولت على البلاد ، وزاحمت اليونان على ما كان بأيديهم من الممالك ، انتقل اليونان إلى جزيرة الأندلس ، لكونها طرفا في آخر العمارة ، ولم يكن لها ذكر إذ ذاك ، ولا ملكها أحد من الملوك المعتبرة ولم تك عامرة ، وكان أوّل من عمّر فيها واختطّها أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام ، فسمّيت باسمه ، ولما عمرت الأرض بعد الطوفان كانت الصورة المعمورة منها عندهم على شكر طائر رأسه المشرق ، والجنوب والشمال رجلاه ، وما بينهما بطنه ، والمغرب ذنبه ، وكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخسّ أجزاء الطير. وكانت اليونان لا ترى فناء الأمم إلّا (١) بالحروب لما فيها من الإضرار والاشتغال عن العلوم التي كان الاشتغال بها عندهم من أهم الأمور ، فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس. فلما صاروا إليها أقبلوا على عمارتها ، فشقّوا الأنهار ، وبنوا المعاقل ، وغرسوا الجنات والكروم ، وشيّدوا الأمصار. وملؤوها حرثا ونسلا وبنيانا ، فعظمت وطابت ، حتى قال قائلهم لمّا رأى بهجتها : إن الطائر الذي صوّرت هذه العمارة على شكله ، وكان المغرب ذنبه ، كان طاووسا معظم جماله في ذنبه.
وحكي أن الرشيد هارون ـ رحمه الله! ـ لمّا حضر بين يديه بعض أهل المغرب قال الرشيد : يقال : إن الدنيا بمثابة طائر ذنبه المغرب ، فقال الرجل : صدقوا يا أمير المؤمنين ، وإنه طاووس ، فضحك أمير المؤمنين الرشيد ، وتعجّب من سرعة جواب الرجل وانتصاره لقطره.
رجع ـ قال : فاغتبط اليونان بالأندلس أتمّ اغتباط ، واتّخذوا دار الحكمة والملك بها طليطلة ؛ لأنها أوسط البلاد ، وكان أهمّ الأمور عندهم تحصينها عمّن يتصل به خبرها من الأمم ، فنظروا فإذا هو أنه لا يحسدهم على رغد العيش إلّا أرباب الشّظف والشقاء والتعب ، وهو يومئذ طائفتان : العرب ، والبربر ، فخافوهم على جزيرتهم العامرة ، فعزموا على أن يتخذوا لهذين الجنسين من الناس طلّسما ، فرصدوا لذلك أرصادا. ولما كان البربر بالقرب منهم ، وليس بينهم سوى تعدية البحر ، ويرد عليهم منهم طوائف منحرفة الطباع ، خارجة عن الأوضاع ، ازدادوا منهم نفورا ، وأكثر (٢) تحذرهم من نسب أو مجاورة ، حتى ثبت ذلك في طبائعهم ، وصار بعضه مركّبا في غرائزهم ، فلمّا علم البربر عداوة أهل الأندلس وبعضهم لهم ، أبغضوهم وحسدوهم ، فلم تجد أندلسيّا إلّا مبغضا بربريّا ، وبالعكس ، إلّا أن البربر أحوج إلى أهل الأندلس ؛ لوجود بعض الأشياء عندهم وفقدها ببلاد البربر.
__________________
(١) إلا : ساقطة في ب.
(٢) في ب : وكثر.