وكان بنواحي غرب الأندلس ملك يوناني بجزيرة يقال لها «قادس» وكانت له ابنة في غاية الجمال ، فتسامع بها ملوك الأندلس ، وكانت الأندلس ، كثيرة الملوك ، لكل بلدة أو بلدتين ملك ، فخطبوها ، وخشي أبوها إن زوّجها من واحد أسخط الباقين ، فتحيّر ، وأحضر ابنته ، وكانت الحكمة مركّبة في طباع القوم ذكورهم وإناثهم ، ولذا قيل ؛ إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض : أدمغة اليونان ، وأيدي أهل الصين ، وألسنة العرب ؛ فقال لها : يا بنيّة ، إني أصبحت على حيرة في أمرك ممّن يخطبك من الملوك ، وما أرضيت واحدا إلّا أسخطت الباقين ، فقالت له : اجعل الأمر إليّ تخلص ، فقال : وما تقترحين؟ فقالت : أن يكون ملكا حكيما ، فقال ؛ نعم ما اخترته لنفسك ، فكتب في أجوبة الملوك الخطّاب ، أنها اختارت من الأزواج الملك الحكيم. فلما وقفوا على الجواب سكن من لم يكن حكيما. وكان في الملوك الخاطبين حكيمان ، فكتب كل واحد منهما : أنا الملك الحكيم. فلما وقف على كتابيهما قال لها : يا بنية ، بقي الأمر على إشكال ، وهذان ملكان حكيمان ، أيّهما أرضيت أسخطت الآخر ، فقالت : سأقترح على كل واحد منهما أمرا يأتي به ، بأيّهما سبق إلى الفراغ مما التمست كنت زوجته ، قال : وما الذي تقترحين عليهما؟ قالت : إنّا ساكنون بهذه الجزيرة ، ومحتاجون إلى رحيّ (١) تدور بها ، وإني مقترحة على أحدهما إدارتها بالماء العذب الجاري إليها من ذلك البرّ ، ومقترحة على الآخر أن يتّخذ لي طلّسما نحصّن به جزيرة الأندلس من البربر ، فاستظرف أبوها ذلك ، وكتب إلى الملكين بما قالت ابنته ، فأجاباه إلى ذلك ، وتقاسماه على ما اختارا ، وشرع كل واحد منهما في عمل ما أسند إليه من ذلك.
فأما صاحب الرّحيّ ، فإنه عمد إلى أشكال اتّخذها من الحجارة ، نضد (٢) بعضها إلى بعض في البحر المالح الذي بين جزيرة الأندلس والبرّ الكبير في الموضع المعروف بزقاق سبتة ، وسدّد الفرج (٣) التي بين الحجارة بما اقتضت حكمته ، وأوصل تلك الحجارة من البرّ إلى الجزيرة ، وآثاره باقية إلى اليوم في الزّقاق الذي بين سبتة والجزيرة الخضراء ، وأكثر أهل الأندلس يزعمون أنّ هذا أثر قنطرة كان الإسكندر قد عملها ليعبر عليها الناس من سبتة إلى الجزيرة ، والله أعلم أيّ القولين أصحّ. غير أن الشائع إلى الآن عند الناس هو الثاني. فلمّا تم تنضيد الحجارة للملك الحكيم ، جلب الماء العذب من جبل عال في البر الكبير ، وسلّطه من ساقية محكمة ، وبنى بجزيرة الأندلس رحى على هذه الساقية.
__________________
(١) في ب : أرحيّ.
(٢) نضد ـ من باب نصر ـ ونضّد : جعل بعضها فوق بعض بشكل متسق متراصف.
(٣) الفرج : جمع فرجة ، وهي المنفرج والشق بين الشيئين.