«وأما صاحب الطّلّسم ، فإنه أبطأ عمله بسبب انتظار الرصد الموافق لعمله ، غير أنه عمل أمره ، وأحكمه ، وابتنى بنيانا مربعا من حجر أبيض على ساحل البحر في رمل عالج (١) حفر أساسه إلى أن جعله تحت الأرض بمقدار ارتفاعه فوق الأرض ليثبت ، فلما انتهى البناء المربّع إلى حيث صوّر من النحاس الأحمر والحديد المصفّى المخلوطين بأحكم الخلط صورة رجل بربري ، وله لحية ، وفي رأسه ذؤابة من شعر جعد قائمة في رأسه لجعودتها ، وهو متأبّط بصورة كساء قد جمع طرفيه على يده اليسرى بألطف تصوير وأحكمه ، في رجله نعل ، وهو قائم من رأس البناء على مستهدف بمقدار رجليه فقط ، وهو شاهق في الهواء ، طوله نيّف عن ستّين أو سبعين ذراعا ، وهو محدودب (٢) الأعلى ، إلى أن ينتهي ما سعته قدر ذراع ، وقد مدّ يده اليمنى بمفتاح قفل قابضا عليه مشيرا إلى البحر كأنه يقول : لا عبور. وكان من تأثير هذا الطّلّسم في البحر الذي تجاهه أنه لم ير قطّ ساكنا ولا كانت تجري فيه قطّ سفينة بربر حتى سقط المفتاح من يده. وكان الملكان اللذان عملا الرّحيّ والطّلّسم يتسابقان إلى فراغ العمل ، إذ بالسّبق يستحق زواج المرأة ، وكان صاحب الرّحيّ فرغ أولا لكنه أخفى أمره من صاحب الطّلّسم لئلّا يترك عمله فيبطل الطّلّسم ، لتحظى المرأة بالرحيّ والطّلّسم. فلما علم باليوم الذي يفرغ صاحب الطلسم في آخره أجرى الماء في الجزيرة من أوله وأدار الرّحيّ ، واشتهر ذلك ، فاتصل الخبر بصاحب الطّلسم وهو في أعلى القبة يصقل وجهه ، وكان الطّلسم مذهبا فلما تحقّق أنه مسبوق ضعفت نفسه فسقط من أعلى البناء ميتا ، وحصل صاحب الرّحيّ على المرأة والرحي والطّلّسم. وكان من تقدّم من ملوك اليونان يخشى على الأندلس من البربر للسبب الذي قدّمنا ذكره ، فاتفقوا وجعلوا الطّلّسمات في أوقات اختاروا أرصادها ، وأودعوا تلك الطّلّسمات تابوتا من الرخام ، وتركوه في بيت بطليطلة وركّبوا على ذلك الباب قفلا ، تأكيدا لحفظ ذلك البيت ، فاستمرّ أمرهم على ذلك.
ولما حان وقت انقراض دولة من كان بالأندلس ودخول العرب والبربر إليها ، وذلك بعد مضيّ ستة وعشرين ملكا من ملوكهم من تاريخ عمل الطلسمات بطليطلة ، وكان لذريق المذكور آنفا هو تمام السابع والعشرين من ملوكهم ، فلما اقتعد أريكة الملك قال لوزرائه وخواصّ دولته وأهل الرأي منهم : قد وقع في نفسي من أمر هذا البيت الذي عليه ستة وعشرون قفلا شيء ، وأريد أن أفتحه لأنظر ما فيه ؛ لأنه لم يعمل عبثا ، فقالوا : أيها الملك ، صدقت ، إنه لم يصنع
__________________
(١) رمل عالج : كثير متراكم بعضه فوق بعض.
(٢) في ب : محدود.