وقال الرازي : كانت الملاقاة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان ، فاتصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد خمس خلون من شوّال بعد تتمة ثمانية أيام ، ثم هزم الله المشركين ، فقتل منهم خلق عظيم ، أقامت عظامهم بعد ذلك بدهر طويل ملبسة بتلك (١) الأرض. قالوا : وحاز المسلمون من عسكرهم ما يجلّ قدره ، فكانوا يعرفون كبار العجم وملوكهم بخواتم الذهب يجدونها في أصابعهم ويعرفون من دونهم بخواتم الفضّة ، ويميزون عبيدهم بخواتم النحاس ، فجمع طارق الفيء وخمّسة ، ثم اقتسمه أهله على تسعة آلاف من المسلمين سوى العبيد والأتباع ، وتسامع الناس من أهل برّ العدوة بالفتح على طارق بالأندلس وسعة المغانم فيها ، فأقبلوا نحوه من كل وجه ، وخرقوا البحر على كل ما قدروا عليه من وركب وقشر (٢) ، فلحقوا بطارق ، وارتفع أهل الأندلس عند ذلك إلى الحصون والقلاع ، وتهاربوا من السهل ، ولحقوا بالجبال ، ثم أقبل طارق حتى نزل بأهل مدينة شذونة ، فامتنعوا عليه ، فشدّ الحصر عليهم حتى نهكهم (٣) وأضرّهم ، فتهيّأ له فتحها عنوة ، فحاز منها غنائم ، ثم مضى منها إلى مدوّر (٤) ، ثم عطف على قرمونة فمرّ بعينه المنسوبة إليه ، ثم مال على إشبيلية فصالحه أهلها على الجزية ، ثم نازل أهل إستجة وهم في قوّة ومعهم فلّ عسكر لذريق ، فقاتلوا قتالا شديدا حتى كثر القتل والجراح بالمسلمين ، ثم إن الله تعالى أظهر المسلمين عليهم ، فانكسروا ، ولم يلق المسلمون فيما بعد ذلك حربا مثلها ، وأقاموا على الامتناع إلى أن ظفر طارق بالعلج صاحبها ، وكان مغترّا سيىء التدبير ، فخرج إلى النهر لبعض حاجاته وحده ، فصادف طارقا هناك قد أتى لمثل ذلك ، وطارق لا يعرفه ، فوثب عليه طارق في الماء ، فأخذه وجاء به إلى العسكر ، فلما كاشفه اعترف له بأنه أمير المدينة ، فصالحه طارق على ما أحبّ ، وضرب عليه الجزية ، وخلّى سبيله ، فوفى بما عاهد عليه ، وقذف الله الرّعب في قلوب الكفرة لمّا رأوا طارقا يوغل في البلاد. وكانوا يحسبونه راغبا في المغنم عاملا على القفول (٥) ، فسقط في أيديهم (٦) ، وتطايروا عن السهول إلى المعاقل ، وصعد ذوو القوّة منهم إلى دار مملكتهم طليطلة ، قيل : وكان من إرهاب طارق لنصارى الأندلس وحيله أن تقدّم إلى أصحابه في تفصيل لحوم القتلى بحضرة أسراهم وطبخها في القدور ، يرونهم أنهم يأكلونها ، فجعل من انطلق من الأسرى يحدّثون من وراءهم بذلك فتمتلىء منه قلوبهم رعبا ويجفلون فرارا ، قالوا : وقال يليان لطارق : قد فضضت جيوش القوم ،
__________________
(١) في ب : لتلك.
(٢) القشر : هنا الزورق الصغير.
(٣) نهكهم : أضعفهم.
(٤) في ب : مورور.
(٥) القفول : الرجوع ، مصدر قفل.
(٦) سقط في أيديهم : حاروا ، أو ندموا.