على موالينا وفي أجنادنا ما قد أيسنا معه من الرجوع إلى أوطاننا ، وقد وسّع الله عليك ، فأحبّ أن تدفع إليّ ضياعا من ضياعك أعتمرها بيدي ، وأؤدي إليك الحقّ منها ، وآخذ الفضل لي طيبا أتعيّش منه ، فقال : لا أرضى لك بالمساهمة ، بل أهب لك هبة مسوّغة ، ثم دعا بوكيل له فقال له : سلّم إليه المجشر (١) الذي لنا على وادي شوش بما لنا فيه من العبيد والدواب والبقر وغير ذلك ، وادفع إليه الضيعة التي بجيّان ، فتسلّم ميمون الضيعتين وورثهما ولده ، وإليهم نسبت قلعة حزم ، فشكره ميمون وأثنى عليه ، وقام عنه. وقد أنف الصميل من قيامه إليه ، فأقبل على أرطباش وقال له : كنت أظنّك أرجح وزنا ، أدخل عليك وأنا سيد العرب بالأندلس في أصحابي هؤلاء ، وهم سادة الموالي ، فلا تزيدنا من الكرامة على الإقعاد على أعوادك هذه ، ويدخل هذا الصّعلوك فتصير من إكرامه إلى حيث صرت؟ فقال له : يا أبا جوشن ، إنّ أهل دينك يخبروننا أن أدبهم لم يرهفك (٢) ولو كان لم تنكر عليّ ما فعلته ، إنكم ، أكرمكم الله ، إنما تكرمون لدنياكم وسلطانكم ، وهذا إنما أكرمته لله تعالى : فقد روينا عن المسيح ، عليه السلام ، أنه قال : من أكرمه الله تعالى من عباده بالطاعة له وجبت كرامته على خلقه ، فكأنما ألقمه حجرا. وكان الصميل أمّيّا ، فلذلك عرّض به ، فقال له القوم : دعنا من هذا ، وانظر فيما قصدنا له ، فحاجتنا حاجة الرجل الذي قصدك فأكرمته ، فانظر في شأننا ، فقال له : أنتم ملوك الناس ، وليس يرضيكم إلّا الكثير ، وها أنا أهب لكم مائة ضيعة تقتسمونها عشرا عشرا ، وكتب لهم بها ، وأمر وكلاءه بتسليمها إليهم ، فكان القوم يرونها من أطيب أملاكهم ، انتهى.
قال ابن حيّان وغيره : ولمّا بلغ موسى بن نصير ما صنعه طارق بن زياد وما أتيح له من الفتوح حسده ، وتهيّأ للمسير إلى الأندلس فعسكر وأقبل نحوها ومعه جماعة الناس وأعلامهم ، وقيل : إنهم كانوا ثمانية عشر ألفا ، وقيل : أكثر ، فكان دخوله إلى الأندلس في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين ، وتنكّب (٣) الجبل الذي حلّه طارق ، ودخل على الموضع المنسوب إليه المعروف الآن بجبل موسى ، فلما احتلّ الجزيرة الخضراء قال : ما كنت لأسلك طريق طارق ، ولا أقفو أثره (٤) ، فقال له العلوج الأدلّاء أصحاب يليان : نحن نسلكك (٥) طريقا هو أشرف من طريقه ، وندلّك على مدائن هي أعظم خطرا وأعظم خطبا وأوسع غنما من مدائنه ، لم تفتح
__________________
(١) المجشر : المرعى.
(٢) أرهف فلان سيفه : حدّده ليصير حادّا قاطعا. والمراد هنا أن أدب الدين لم يرقق طباعه.
(٣) تنكّب الجبل : تجنبه ومال عنه إلى غيره.
(٤) أقفو أثره : أتبعه.
(٥) في ب : نسلك بك.