الحسبة (١) منهم إذا مات أحدهم أوصى بمال للكنائس ، فإذا اجتمع عندهم ذلك المال صاغوا منه الآلات الضخمة من الموائد والكراسي وأشباهها من الذهب والفضّة ، تحمل الشّمامسة والقسوس فوقها مصاحف الأناجيل إذا أبرزت في أيام المناسك ، ويضعونها على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها ، فكانت تلك المائدة بطليطلة مما صيغ في هذه السبيل ، وتأنّقت الأملاك في تفخيمها ، يزيد الآخر منهم على الأوّل ، حتى برزت على جميع ما اتّخذ من تلك الآلات ، وطار الذكر مطاره عنها ، وكانت مصوغة من خالص الذهب ، مرصّعة بفاخر الدّرّ والياقوت والزّمرّد ، لم تر الأعين مثلها ، وبولغ في تفخيمها من أجل دار المملكة ، وأنه لا ينبغي أن تكون بموضع آلة جمال أو متاع مباهاة إلّا دون ما يكون فيها ، وكانت توضع على مذبح كنيسة طليطلة ، فأصابها المسلمون هنالك ، وطار النبأ الفخم عنها. وقد كان طارق ظنّ بموسى أميره مثل الذي فعله من غيرته على ما تهيّأ له ومطالبته له بتسليم ما في يده إليه ، فاستظهر بانتزاع رجل من أرجل هذه المائدة خبّأه عنده ، فكان من فلجه (٢) به على موسى عدوّه عند الخليفة إذ تنازعا عنده بعد الأثر في جهادهما ما هو مشهور ، انتهى.
وقال بعض المؤرّخين : إن المائدة كانت مصنوعة من الذهب والفضة ، وكان عليها طوق لؤلؤ وطوق ياقوت وطوق زمرّد ، وكلّها مكلّلة بالجواهر ، انتهى.
وما ذكره ابن حيّان من أن الذي نكب موسى بن نصير هو سليمان بن عبد الملك صواب ، وأمّا ما حكاه ابن خلّكان من أن المنكب (٣) له الوليد فليس بصحيح ، والله أعلم.
رجع إلى كلام ابن حيّان ـ قالوا : ثم إن موسى اصطلح مع طارق ، وأظهر الرضا عنه ، وأقرّه على مقدمته على رسمه ، وأمره بالتقدّم أمامه في أصحابه ، وسار موسى خلفه في جيوشه ، فارتقى إلى الثغر الأعلى ، وافتتح سرقسطة وأعمالها ، وأوغل في البلاد ، وطارق أمامه ، لا يمرّان بموضع إلّا فتح عليهما ، وغنّمهما الله تعالى ما فيه. وقد ألقى الله الرعب في قلوب الكفرة فلم يعارضهما أحد إلّا بطلب صلح (٤) ، وموسى يجيء على أثر طارق في ذلك كله ، ويكمل ابتداءه ، ويوثّق للناس ما عاهدوه عليه ، فلما صفا القطر كلّه وطامن نفوس من أقام
__________________
(١) وادي القرى : هو واد بين المدينة والشام من أعمال المدينة كثير القرى (معجم البلدان ج ٥ ص ٣٤٥).
(٢) في ب : الحسنة.
(٣) كذا وردت ، وصواب العبارة أن يقول : «أن الناكب له» لأنه لم يرد في اللغة أنكبه بهذا المعنى. وعلى الأغلب أن «المنكب» تصحيف لكلمة لعلها «المبكت» لا سيما أن المؤرخين أجمعوا على أن الوليد لم ينكب موسى ، وإنما نقم عليه أمرا فأقامه في الشمس يوما كاملا في يوم صائف حتى خرّ مغشيا عليه.
(٤) في ب : الصلح.