حصلت في يد هذا الرجل بعدما ملكت الأندلس ، وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزّخّار (١) ، وتيقّنت بعد المرام واستصعابه ، واستخلصت بلادا أنت افترعتها (٢) ، واستملكت رجالا لا يعرفون غير خيرك وشرّك ، وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في يد من لا يرحمك ، ثم إنك علمت أن سليمان وليّ عهد ، وأنه المولّى بعد أخيه ، وقد أشرف (٣) على الهلاك لا محالة ، وبعد ذلك خالفته ، وألقيت بيدك إلى التهلكة ، وأحقدت مالكك ومملوكك ، قال : يعني سليمان وطارقا ، وما رضا هذا الرجل عنك إلّا بعيد ، ولكن لا آلو جهدا ، فقال موسى : يا ابن الكرام ، ليس هذا وقت تعديد ، أما سمعت «إذا جاء الحين ، غطّى على (٤) العين» فقال : ما قصدت بما قلت لك تعديدا ولا تبكيتا ، وإنما قصدت تلقيح العقل ، وتنبيه الرأي ، وأن أرى ما عندك؟ فقال موسى : أما رأيت الهدهد يرى الماء تحت الأرض عن بعد ، ويقع في الفخ وهو بمرأى عينه؟ ثم كلّم فيه سليمان ، فكان من جوابه «إنه قد اشتمل رأسه بما تمكّن له من الظهور ، وانقياد الجمهور ، والتحكّم في الأموال والأبشار ، على ما لا يمحوه إلّا السيف ، ولكن قد وهبت لك دمه ، وأنا بعد ذلك غير رافع عنه العذاب حتى يردّ ما غلّ من مال الله». قال : وآلت حاله إلى أن كان يطاف به ليسأل من أحياء العرب ما يفتكّ به نفسه ، وفي تلك الحال مات ، وهو من أفقر الناس وأذلّهم ، بوادي القرى ، سائلا من كان نازلا به.
وقال أحد غلمانه ممّن وفى له في حال الفقر والخمول : لقد رأيتنا نطوف مع الأمير موسى بن نصير على أحياء العرب ، فواحد يجيبنا ، وآخر يحتجب عنّا ، ولربما دفع إلينا على جهة الرحمة الدرهم والدرهمين ، فيفرح بذلك الأمير ليدفعه إلى الموكلين به ، فيخفّفون عنه من العذاب ، ولقد رأيتنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ السّلوب (٥) من قصور النصارى ، فنفصل منها ما يكون من الذهب وغير ذلك ونرمي به ، ولا نأخذ إلّا الدّرّ الفاخر ، فسبحان الذي بيده العزّ والذلّ والغنى والفقر.
قال : وكان له مولى قد وفى له وصبر عليه إلى أن ضاق ذرعه (٦) بامتداد الحال ، فعزم على أن يسلمه (٧) وهو بوادي القرى في أسوإ حال ، وشعر بذلك موسى ، فخضع للمولى
__________________
(١) البحر الزخار : زخار صيغة مبالغة لاسم الفاعل زاخر. والبحر الزاخر والزخار : الممتلىء الطامي المتلاطم الأمواج.
(٢) في أ: اخترعتها.
(٣) في ب : أشرف أخوه.
(٤) على : سقطت في ب.
(٥) في ب : السلوك.
(٦) ضاق ذرعه : لم يعد يقدر على الصبر.
(٧) يسلمه : يخذله.