الباب الثالث
الدولة الإسلامية في الأندلس
في سرد بعض ما كان للدّين بالأندلس من العزّ السامي العماد ، والقهر للعدوّ في الرواح والغدوّ والتحرّك والهدوّ والارتياح البالغ غاية الآماد ، وإعمال أهلها للجهاد ، بالجدّ والاجتهاد ، في الجبال والوهاد ، بالأسنّة المشرعة والسيوف المستلّة من الأغماد.
أقول : قدّمنا في الباب قبل هذا ما كان من نصر المسلمين ، وفتحهم الأندلس ، وما حصل لهم من سلطان بها إلى مجيء الداخل ، فتقرّرت القواعد السلطانية ، وعلت الكلمة الإيمانية ، كما نسرده هنا إن شاء الله تعالى.
وذكر غير واحد ـ منهم ابن حزم ـ أن دولة بني أميّة بالأندلس كانت أنبل دول الإسلام ، وأنكاها في العدو ، وقد بلغت من العزّ والنصر ما لا مزيد عليه ، كما سترى بعضه.
وأصل هذه الدولة ـ كما قال ابن خلدون وغير واحد ـ أنّ بني أمية لمّا نزل بهم بالمشرق ما نزل ، وغلبهم بنو العباس على الخلافة ، وأزالوهم عن كرسيّها ، وقتل عبد الله بن علي مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة ثنتين وثلاثين ومائة ، وتتبّع بني مروان بالقتل ، فطلبوا بطن الأرض من بعد ظهرها. وكان ممّن أفلت منهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، وكان قومه يتحيّنون له ملكا بالمغرب ، ويرون فيه علامات لذلك يأثرونها عن مسلمة بن عبد الملك ، وكان هو قد سمعها منه مشافهة ، فكان يحدّث نفسه بذلك ، فخلص إلى المغرب ، ونزل على أخواله نفزة (١) من برابرة طرابلس. وشعر به عبد الرحمن بن حبيب ، وكان قد قتل ابني الوليد بن يزيد بن عبد الملك لمّا دخلا إفريقية ، فلحق بمغيلة ، وقيل بمكناسة ، وقيل : بقوم من زناتة ، فأحسنوا قبوله ، واطمأنّ فيهم. ثم لحق بمليلة ، وبعث بدرا مولاه إلى من بالأندلس من موالي المروانيين وأشياعهم ، فاجتمع بهم ، وبثّوا له في الأندلس دعوة ، ونشروا له ذكرا. ووافق قدومه ما كان من الإحن (٢) بين اليمنية
__________________
(١) نفزة : قبيلة من قبائل البربر سميت بهم قرية بمالقة.
(٢) الإحن : جمع إحنة ، وهي العداوة والبغض والحقد والكراهية.