جعفر المنصور يسميه «صقر قريش» لمّا رأى أنه فعل بالأندلس ما فعل ، وما ركب إليها من الأخطار ، وأنه نهد إليها من أنأى ديار المشرق من غير عصابة ولا أنصار ، فغلب أهلها على أمرهم ، وتناول الملك من أيديهم بقوّة شكيمة ، ومضاء عزم حتى انقاد له الأمر ، وجرى على اختياره ، وأورثه عقبه ، وكان يسمّى بالأمير ، وعليه جرى بنوه من بعده ، فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين تأدّبا مع الخلافة بمقرّ الإسلام ومنتدى العرب ، حتى كان من عقبه عبد الرحمن الناصر ، وهو ثامن بني أمية بالأندلس ، فتسمّى بأمير المؤمنين على ما سنذكره ، لمّا رأى من ضعف خلفاء بني العباس بعد الثلاثمائة ، وغلبة الأعاجم عليهم ، وكونهم لم يتركوا لهم غير الاسم ، وتوارث التلقيب بأمير المؤمنين بنو عبد الرحمن الناصر واحدا بعد واحد.
قال ابن حيان (١) : وكان لبني عبد الرحمن الداخل بالعدوة الأندلسية ملك ضخم ودولة متّسعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة ، وعند ما شغل المسلمون بعبد الرحمن وتمهيد أمره قوي أمر الجلالقة ، واستفحل سلطانهم (٢) ، وعمد فرويلة بن أذفونش ملكهم إلى ثغور البلاد فأخرج المسلمين منها ، وملكها من أيديهم ، فملك مدينة لكّ وبرتقال وسمّورة وقشتالة وشقوبية (٣) ، وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور ابن أبي عامر آخر الدولة ، ثم استعادوها بعده فيما استعادوه من بلاد الأندلس ، واستولوا على جميعها حسبما يذكر ، ولله سبحانه الأمر ، انتهى.
وخاطب عبد الرحمن قارله ملك الإفرنج ، وكان من طغاة الإفرنج ، بعد أن تمرّس به مدّة ، فأصابه صلب المكسر (٤) ، تامّ الرجولية ، فمال معه إلى المداراة ، ودعاه إلى المصاهرة والسّلم ، فأجابه للسلم ، ولم تتمّ المصاهرة.
قال ابن حيّان : ولما (٥) ألفى الداخل الأندلس ثغرا قاصيا غفلا (٦) من حلية الملك عاطلا أرهف (٧) أهلها بالطاعة السلطانية ، وحنّكهم بالسّيرة الملوكية ، وأخذهم بالآداب فأكسبهم عمّا قليل المروءة ، وأقامهم على الطريقة ، وبدأ فدوّن الدواوين ، ورفع الأواوين ، وفرض الأعطية ، وعقد الألوية ، وجنّد الأجناد ، ورفع العماد ، وأوثق الأوتاد ، فأقام للملك آلته ، وأخذ للسلطان عدّته ، فاعترف له بذلك أكابر الملوك وحذروا جانبه ، وتحاموا حوزته ، ولم يلبث أن دانت له بلاد الأندلس ، واستقلّ له الأمر فيها.
__________________
(١) في ب : قال ابن خلدون.
(٢) استفحل أمره : قوي واشتد.
(٣) في ب : وشلمنقة.
(٤) تمرس به : احتكّ به وجرّبه. وصلب المكسر : أي قوي شديد يصعب أن يكسر.
(٥) ولما : ساقطة في ب.
(٦) غفلا : هنا المكان الخالي من حلية الملك.
(٧) في ب : فأرهف.