بأنتن من ريح الجيف ، فكان جوابها له مسرعة : بل ذلك كان والله يا سيدي منك ، خرج ولم تشعر به من فرط فزعك ، فاستظرف جوابها ، وأغضى عن مواجهتها بمثل ذلك ، وهذا من آفات المزاح.
ومن محاسنه أنه أدار السور بقرطبة ، رحمه الله (١)!.
وتولّى الملك بعده ابنه هشام بعهد منه إليه ، وأمّه أمّ ولد اسمها حلل ، وأفضى إليه الملك وهو بماردة وال عليها ، وكان أبوه يوليه في صباه ويرشّحه للأمر ، وكان الداخل كثيرا ما يسأل عن ابنيه سليمان وهشام ، فيذكر له أن هشاما إذا حضر مجلسا امتلأ أدبا وتاريخا وذكرا لأمور الحرب ومواقف الأبطال ، وما أشبه ذلك ، وإذا حضر سليمان مجلسا امتلأ سخفا وهذيانا ، فيكبر هشام في عينه بمقدار ما يصغر سليمان ، وقال يوما لهشام : لمن هذا الشعر (٢) : [الطويل]
وتعرف فيه من أبيه شمائلا |
|
ومن خاله أو من يزيد ومن حجر (٣) |
سماحة ذا ، مع برّ ذا ، ووفاء ذا ، |
|
ونائل ذا ، إذا صحا وإذا سكر |
(٤) فقال له : يا سيدي ، لامرىء القيس ملك كندة ، وكأنه قاله في الأمير أعزّه الله! فضمّه إليه استحسانا بما سمع منه ، وأمر له بإحسان كثير ، وزاد في عينيه. ثم قال لسليمان على انفراد : لمن هذا الشعر؟ وأنشده البيتين ، فقال : لعلّهما لأحد أجلاف العرب ، أما لي شغل غير حفظ أقوال بعض الأعراب؟ فأطرق عبد الرحمن ، وعلم قدر ما بين الاثنين من المزية.
ولمّا ولي هشام أشخص المنجم المعروف بالضّبّي من وطنه الجزيرة الخضراء إلى قرطبة ، وكان في علم النجوم والمعرفة بالحركات العلوية بطليموس زمانه حذقا وإصابة ، فلمّا أتاه خلا به وقال له : يا ضبّي ، لست أشكّ أنه قد عناك من أمرنا إذ بلغك ما لم ندع تحديد (٥) النظر فيه ، فأنشدك الله إلّا ما نبّأتنا بما ظهر لك فيه ، فلجلج (٦) وقال : أعفني أيها الأمير ، فإني
__________________
(١) في ب : رحمه الله تعالى.
(٢) هذان البيتان لامرىء القيس بن حجر الكندي المتوفى سنة ٥٦٥ م على الأغلب ، وهو أحد شعراء الجاهلية الكبار ، ويزعم كثير من النقاد أنه أكبر شعراء الجاهليين ومعلقته مشهورة. له ديوان طبع أكثر من طبعة.
والبيتان من قصيدة طويلة يبدؤها الشاعر بقوله :
لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر |
|
ولا مقصر يوما فيأتيني بقر |
(٣) وقد قال الشاعر قصيدته بسعد بن ضباب وهو ـ فيما زعموا ـ أخو امرئ القيس لأبيه (انظر ديوان امرئ القيس طبعة صادر ١٠١).
(٤) في ب : وبرّ ذا.
(٥) في ب : ما لم يدع تجديد.
(٦) لجلج : تردد في الكلام.