ونادى في الحين بالجهاد والاستعداد ، فخرج بعد ثلاث إلى وادي الحجارة ومعه الشاعر ، وسأل عن الخيل التي أغارت من أيّ أرض العدوّ كانت ، فأعلم بذلك ، فغزا تلك الناحية وأثخن فيها ، وفتح الحصون ، وخرّب الديار ، وقتل عددا كثيرا ، وجاء إلى وادي الحجارة فأمر بإحضار المرأة وجميع من أسر له أحد في تلك البلاد ، فأحضر ، فأمر بضرب رقاب الأسرى بحضرتها ، وقال للعباس : سلها : هل أغاثها الحكم؟ فقالت المرأة ، وكانت نبيلة : والله لقد شفى الصدور ، وأنكى العدوّ ، وأغاث الملهوف ، فأغاثه الله ، وأعزّ نصره! فارتاح لقولها ، وبدا السرور في وجهه وقال : [الطويل]
ألم تر يا عباس ، أنّي أجبتها |
|
على البعد أقتاد الخميس المظفّرا (١) |
فأدركت أوطارا وبرّدت غلّة |
|
ونفّست مكروبا وأغنيت معسرا |
فقال عباس : نعم ، جزاك الله خيرا عن المسلمين! وقبّل يده.
وممّا عيب به أنه قتل الفقيه أبا زكريا يحيى بن مضر القيسي ، وكان قدوة في الدين والورع ، سمع من سفيان ومالك بن أنس ، وروى عنه مالك وقال : حدّثنا يحيى بن مضر عن سفيان الثّوري أن الطّلح المنضود هو الموز ، وكان قتل المذكور مع جماعة من العلماء وغيرهم.
وقال بأمره من بعده ابنه عبد الرحمن ، بعهد منه إليه ، ثم لأخيه المغيرة بعده ، فغزا عبد الرحمن لأول ولايته إلى جلّيقيّة وأبعد ، وأطال المغيب ، وأثخن في أمم النصرانية هنالك ، ورجع.
وقدم عليه سنة ست ومائتين زرياب المغني من العراق ، وهو مولى المهدي ومتعلّم إبراهيم الموصلي ، واسمه علي بن نافع ، فركب بنفسه لتلقّيه ، على ما حكاه ابن خلدون ، وبالغ في إكرامه ، وأقام عنده بخير حال ، وأورث صناعة الغناء بالأندلس وخلّف أولادا فخلفه كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته.
وفي سنة ثمان (٢) أغزى حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة والقلاع ، فخرّب
__________________
(١) الخميس : الحبيش الكثير العدد.
(٢) كان مقتله ومقتلهم في معركة الربض (انظر ابن خلدون ٤ : ١٢٦) وأبو زكريا يحيى بن مضر القبسي هو : من فقهاء الأندلس والشهورين في الدين والورع. أخذ عن سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وأخذ عنه في الأندلس يحيى بن يحيى الليثي (انظر وفيات الأعيان ٦ : ١٤٣).