ودخل عليه بعد ذلك فقال له : كيف خلصت من الشّرك؟ فقال : لأنّ عقلي بالهوى غير مشترك ، فأنعم عليه ، وزادت محبّته عنده ، وممّن ذكر هذه الحكاية صاحب «مطالع البدور ، في منازل السرور».
وأخبار الناصر طويلة جدّا ، وقد منح الظفر على الثوّار ، واستنزلهم من معاقلهم ، حتى صفا له الوقت ، وكانت له في جهاد العدوّ اليد البيضاء ، فمن غزواته أنه غزا سنة ثمان وثلاثمائة إلى جلّيقية وملكها أردون بن أذفونش ، فاستنجد بالبشكنس والإفرنجة وظاهر شانجه بن فريلة (١) صاحب ينبلونة أمير البشكنس ، فهزمهم ، ووطئ بلادهم ، ودوّخ أرضهم ، وفتح معاقلهم ، وخرّب حصونهم ، ثم غزا ينبلونة (٢) سنة ثنتي عشرة ، ودخل دار الحرب ، ودوّخ البسائط ، وفتح المعاقل ، وخرّب الحصون ، وأفسد العمائر ، وجال فيها ، وتوغّل في قاصيتها ، والعدوّ يحاذيه في الجبال والأوعار ، ولم يظفر منه بشيء ، ثم بعد مدّة ظفر ببعض الثوّار عليه ، وكان استمدّ بالنصارى فقتل الناصر من كان مع الثائر من النصارى أهل ألبة ، وفتح ثلاثين من حصونهم ، وبلغه انتقاض طوطة (٣) ملكة البشكنس فغزاها في ينبلونة ودوّخ أرضها واستباحها ، ورجع إلى قرطبة ، ثم غزا غزوة الخندق سنة سبع وعشرين إلى جلّيقية فانهزم وأصيب فيها المسلمون ، وقعد بعدها عن الغزو بنفسه ، وصار يردّد البعوث والصوائف إلى الجهاد ، وبعث جيوشه إلى المغرب فملك سبتة وفاسا وغيرهما من بلاد المغرب ، وطار صيته وانتشر ذكره كما سبق. ولمّا هلك شانجه بن فرويلة (٤) ملك البشكنس قام بأمرهم بعده أمه طوطة ، وكفلت ولده ، ثم انتقضت على الناصر سنة خمس وعشرين ، فغزا الناصر بلادها ، وخرّب نواحي ينبلونة وردّد عليها ، كما مرّ ، الغزوات. وكان قبل ذلك سنة ثنتين وعشرين غزا إلى وخشمة ، ثم رحل إلى ينبلونة ، فجاءته طوطة بطاعتها وعقد لابنها غرسيه على ينبلونة ، ثم عدل إلى ألبة وبسائطها فدوّخها وخرّب حصونها ، ثم اقتحم جلّيقيّة وملكها يومئذ ردمير بن أردون ، فخام عن لقائه ، ودخل وخشمة ، فنازله الناصر فيها ، وهدم برغش (٥) وكثيرا من معاقلهم ، وهزمهم مرارا ، ورجع ، ثم كانت بعدها غزوة الخندق السابقة ، وهابته أمم النصرانية. ثم وفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل صاحب قسطنطينية وهديته ، وهو يومئذ قسطنطين ، واحتفل الناصر
__________________
(١) في ب : شانجه بن غرسيه.
(٢) في ب : بنبلونة.
(٣) في ب : انتفاض طوطة.
(٤) في ب : ولما هلك غرسيه بن شانجه .... قام بأمرهم بعده أمه طوطة.
(٥) برغش : إحدى المدن الشمالية على حدود الأندلس.