وفي المنصور المذكور أيضا قال بعض مؤرّخي المغرب ، مازجا كلامه ببعض كلام الفتح ، بعد ذكر استعانته ببعض الناس على بعض ، وذكر قتله لجعفر بن علي ، فقال بعده ما صورته : ثم انفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر هل من مبارز ، فلمّا لم يجده حمل الدهر على حكمه ، فانقاد له وساعده ، فاستقام أمره منفردا بمملكة لا سلف له فيها (١) ، ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قطّ في حرب شهدها ، وما توجّهت عليه هزيمة ، وما انصرف عن موطن إلّا قاهرا غالبا ، على كثرة ما زاول من الحروب ومارس من الأعداء وواجه من الأمم ، وإنها لخاصّة ما أحسب أحدا من الملوك الإسلامية شاركه فيها ، ومن أعظم ما أعين به مع قوة سعده وتمكّن جدّه (٢) سعة جوده ، وكثرة بذله ، فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان ، وأول ما اتكأ على أرائك الملوك وارتفق (٣) ، وانتشر عليه لواء السعد وخفق ، حط صاحبه المصحفيّ ، وأثار له كامن حقده الخفيّ ، حتى أصاره للهموم لبيسا ، وفي غيابات السجن حبيسا ، فكتب إليه يستعطفه بقوله (٤) : [البسيط]
هبني أسأت فأين العفو والكرم |
|
إذ قادني نحوك الإذعان والنّدم |
يا خير من مدّت الأيدي إليه أما |
|
ترثي لشيخ رماه عندك القلم |
بالغت في السّخط فاصفح صفح مقتدر |
|
إن الملوك إذا ما استرحموا رحموا |
فما زاده ذلك إلّا حنقا وحقدا ، وما أفادته الأبيات إلّا تضرّما ووقدا ، فراجعه بما أيأسه ، وأراه مرمسه ، وأطبق عليه محبسه ، وضيّق تروّحه من المحنة وتنفّسه : [البسيط]
الآن يا جاهلا زلّت بك القدم |
|
تبغي التّكرّم لمّا فاتك الكرم |
أعريت بي ملكا لولا تثبّته |
|
تبغي التّكرّم لمّا فاتك الكرم |
أغريت بي ملكا لو لا تثبّته |
|
ما جاز لي عنده نطق ولا كلم |
فايأس من العيش إذ قد صرت في طبق |
|
إنّ الملوك إذا ما استنقموا نقموا |
نفسي إذا سخطت ليست براضية |
|
ولو تشفّع فيك العرب والعجم |
وكان من أخباره الداخلة في أبواب البرّ والقربة بنيان المسجد الجامع ، إلى أن قال :
__________________
(١) أراد أنه لم يرث الملك عن أهله.
(٢) جدّه : حظه.
(٣) ارتفق : اتكأ.
(٤) نسب جماعة هذه الأبيات إلى المصحفي ، ونسبها آخرون إلى ابن دراج القسطلي.