عنه ريح العناية. وبلغت قصته للقاضي ، فصالحه مع زوجته ، وزاد القاضي شدّة في أحكامه.
وقال ابن حيّان : إنه كان جالسا في بعض الليالي ، وكانت ليلة شديدة البرد والريح والمطر ، فدعا بأحد الفرسان وقال له : «انهض الآن إلى فج طليارش ، وأقم فيه ، فأول خاطر يخطر عليك سقه إليّ». قال : فنهض الفارس وبقي في الفجّ في البرد والريح والمطر واقفا على فرسه ، إذ وقف عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له ، ومعه آلة الحطب ، فقال له الفارس: «إلى أين تريد يا شيخ»؟ فقال : «وراء حطب» ، فقال الفارس في نفسه : «هذا شيخ مسكين نهض إلى الجبل يسوق حطبا ، فما عسى أن يريد المنصور منه»؟ قال : فتركته ، فسار عنّي قليلا ، ثم فكّرت في قول المنصور ، وخفت سطوته ، فنهضت إلى الشيخ وقلت له : «ارجع إلى مولانا المنصور». فقال له : وما عسى أن يريد المنصور من شيخ مثلي؟ سألتك بالله أن تتركني أذهب لطلب معيشتي ، فقال له الفارس : لا أفعل ، ثم قدم به على المنصور ، ومثّله بين يديه وهو جالس لم ينم ليلته تلك ، فقال المنصور للصقالبة : فتّشوه ، ففتّشوه فلم يجدوا معه شيئا ، فقال : فتّشوا برذعة حماره (١) ، فوجدوا داخلها كتابا من نصارى كانوا قد نزعوا إلى المنصور ، ويخدمون عنده إلى أصحابهم من النصارى ليقبلوا ويضربوا في إحدى النّواحي المرطومة (٢). فلما انبلج الصبح أمر بإخراج أولئك النصارى إلى باب الزاهرة ، فضربت أعناقهم ، وضربت رقبة الشيخ معهم.
ثم ذكر هذا المؤرّخ (٣) قصة الجوهري التي قدّمنا نقلها من مغرب ابن سعيد ، ولكنّا رأينا إعادتها بلفظ هذا المؤرّخ ؛ لأنه أتمّ مساقا إذ قال عطفا على دهائه : ومن ذلك قصة الجوهري التاجر ، وذلك أن رجلا جوهريا من تجّار المشرق قصد المنصور من مدينة عدن بجوهر كثير وأحجار نفيسة ، فأخذ المنصور من ذلك ما استحسنه ، ودفع إلى التاجر الجوهري صرّته ، وكانت قطعة يمانيّة ، فأخذ التاجر في انصرافه طريق الرّملة على شطّ النهر ، فلمّا توسّطها واليوم قائظ ، وعرقه منصبّ دعته نفسه إلى التبرّد في النهر ، فوضع ثيابه وتلك الصّرّة على الشّطّ ، فمرّت حدأة فاختطفت الصّرّة ، تحسبها لحما ، وصارت (٤) في الأفق بها ذاهبة ، فقطعت الأفق الذي تنظر إليه عين التاجر ، فقامت قيامته ، وعلم أنّه لا يقدر أن يستدفع ذلك بحيلة ، فأسرّ
__________________
(١) البرذعة والبردعة : ثوب يوضع على ظهر الحمار أو البغل ، ليركب عليه.
(٢) في ب : الموطومة. ولم أعثر على معنى يوافق السياق ، ولعله أراد بها الأمكنة الكثيرة الوحل إن لم تكن الكلمة قد لحقها التصحيف ، وهو أغلب ظننا.
(٣) البيان المغرب ٢ / ٤٣٥.
(٤) في ب : وصاعدت في الأفق.