ومن ذلك غزوة المنصور لمدينة شنت ياقب قاصية غليسية ، وأعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس ، وما يتّصل بها من الأرض الكبيرة. وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا ، وللكعبة المثل الأعلى ، فبها يحلفون ، وإليها يحجّون من أقصى بلاد رومة وما وراءها ، ويزعمون أنّ القبر المزور فيها قبر ياقب الحواريّ أحد الاثني عشر ، وكان أخصّهم بعيسى ، على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام! وهم يسمّونه أخاه للزومه إيّاه. وياقب بلسانهم يعقوب ، وكان أسقفا ببيت المقدس ، فجعل يستقري الأرضين داعيا لمن فيها حتى انتهى إلى هذه القاصية ، ثم عاد إلى أرض الشام فمات بها ، وله مائة وعشرون سنة شمسية ، فاحتمل أصحابه رمّته (١) ، فدفنوها بهذه الكنيسة التي كانت أقصى أثره. ولم يطمع أحد من ملوك الإسلام في قصدها ولا الوصول إليها ، لصعوبة مدخلها ، وخشونة مكانها. وبعد شقّتها. فخرج المنصور إليها من قرطبة غازيا بالصائفة يوم السبت لستّ بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة ، وهي غزوته الثامنة والأربعون. ودخل على مدينة قورية (٢) ، فلمّا وصل إلى مدينة غليسية وافاه عدد عظيم من القوامس المتمسّكين بالطاعة في رجالهم ، وعلى أتمّ احتفالهم ، فصاروا في عسكر المسلمين ، وركبوا في المغاورة (٣) سبيلهم. وكان المنصور تقدّم في إنشاء أسطول كبير في الموضع المعروف بقصر أبي دانس (٤) من ساحل غرب الأندلس ، وجهّزه برجاله البحريّين وصنوف المترجّلين ، وحمل الأقوات والأطعمة والعدد والأسلحة ، استظهارا على نفوذ العزيمة إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويرة ، فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل المنصور على العبور منه ، فعقد هنالك من هذا الأسطول جسرا بقرب الحصن الذي هنالك ، ووجّه المنصور ما كان فيه من الميرة إلى الجند ، فتوسّعوا في التزوّد منه إلى أرض العدو. ثم نهض منه يريد شنت ياقب ، فقطع أرضين متباعدة الأقطار ، وقطع بالعبور عدة أنهار كبار وخلجان يمدّها البحر الأخضر. ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى بسائط جليلة من بلاد فرطارش (٥) وما يتّصل بها ، ثم أفضى إلى جبل شامخ شديد الوعر لا مسلك فيه ولا طريق ، لم يهتد الأدلّاء إلى سواه. فقدّم المنصور الفعلة بالحديد لتوسعة شعابه وتسهيل مسالكه ، فقطعه العسكر ، وعبروا بعده وادي منية ، وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين أريضة (٦) ، وانتهت
__________________
(١) الرمّة : العظام البالية.
(٢) قورية : مدينة قريبة من ماردة ، لها سور منيع (انظر صفة جزيرة الأندلس صفحة ١٦٤).
(٣) المغاورة : الإغارة.
(٤) قصر أبي دانس : مرسى الأسطول على ساحل البرتغال جنوبي لشبونة.
(٥) في البيان المغرب : فلطارش.
(٦) أريضة : كثيرة العشب.