محمد بن حفص على الجحد ، فقال جعفر : أنشد الله من له علم بما أذكره ، إلّا اعترف به فلا ينكره ، وأنا أحوج إلى السكوت ، ولا تحجب دعوتي فيه عن الملكوت ، فقال الوزير أحمد بن عباس : قد كان بعض ما ذكرته يا أبا الحسن ، وغير هذا أولى بك ، وأنت فيما أنت فيه من محنتك وطلبك ، فقال : أحرجني الرجل ، فتكلّمت ، وأحوجني إلى ما به أعلمت ، فأقبل الوزير ابن جهور على محمد بن حفص وقال : أسأت إلى الحاجب ، وأوجبت عليه غير الواجب ، أو ما علمت أنّ منكوب السلطان لا يسلّم على أوليائه لأنه إن فعل ألزمهم الردّ لقوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [النساء : ٨٦] فإن فعلوا طاف بهم من إنكار السلطان ما يخشى ويخاف ؛ لأنه تأنيس لمن أوحش وتأمين لمن أخاف ، وإن تركوا الردّ أسخطوا الله ، فصار الإمساك أحسن ، ومثل هذا لا يخفى على أبي الحسن ، فانكسر ابن حفص ، وخجل ممّا أتى به من النقص. وبلغه أن قوما توجّعوا له ، وتفجّعوا ممّا وصله ، فكتب إليهم : [الطويل]
أحنّ إلى أنفاسكم فأظنّها |
|
بواعث أنفاس الحياة إلى نفسي |
وإنّ زمانا صرت فيه مقيّدا |
|
لأثقل من رضوى وأضيق من رمس (١) |
انتهى ما ترجم به المنصور بن أبي عامر.
ولنرجع فنقول : ولمّا توفي المنصور قام بالأمر بعده ابنه عبد الملك المظفّر أبو مروان فجرى على سنن أبيه (٢) في السياسة والغزو ، وكانت أيامه أعيادا دامت مدّة سبع سنين وكانت تسمى بالسابع ، تشبيها بسابع العروس ، ولم يزل مثل اسمه مظفرا إلى أن مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة في المحرم ، وقيل : سنة ثمان وتسعين.
وكاتبه المعزّ بن زيري ملك مغراوة بعد أن استرجع فاسا والمغرب إثر موت أبيه ، فكتب له العهد على المغرب ، وثارت الطوائف في ممالكهم ، وتحرّكت الجلالقة لاسترجاع معاقلهم وحصونهم.
قال ابن خلدون (٣) : ثم قام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن ، وتلقّب بالناصر لدين الله ، وقيل : بالمأمون ، وجرى على سنن أبيه وأخيه في الحجر على الخليفة هشام ، والاستبداد عليه ، والاستقلال بالملك دونه. ثم ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة ، فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده ، فأجابه ، وأحضر لذلك الملأ من أرباب الشورى وأهل الحلّ
__________________
(١) الرمس : القبر.
(٢) سنن أبيه : طريقته ونهجه.
(٣) تاريخ ابن خلدون ٤ / ١٤٨.