ولا خيارا ، وأعطى على الوفاء به في سرّه وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه ، وذمّة نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم ، وذمم الخلفاء الراشدين من آبائه ، وذمّة نفسه ، أن لا يبدّل ولا يغيّر ولا يحوّل ولا يزول. وأشهد الله على ذلك والملائكة ، وكفى بالله شهيدا ، وأشهد من أوقع اسمه في هذا وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور وفّقه الله تعالى ، وقبوله ما قلّده ، وإلزامه نفسه ما ألزمه ، وذلك في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهاداتهم بخطوط أيديهم ، وتسمّى بعدها بوليّ العهد.
ونقم عليه أهل الدولة ذلك ، فكان فيه حتفه ، وانقراض دولته ودولة قومه ، وكان أسرع الناس كراهة لذلك الأمويون والقرشيون ، فغصّوا بأمره ، وأسفوا من تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية ، فاجتمعوا لشأنهم ، وتمشّت من بعض إلى بعض رجالاتهم ، وأجمعوا أمرهم في غيبة من المذكور ببلاد الجلالقة في غزاة من صوائفه ، ووثبوا بصاحب الشرطة فقتلوه بمقعده من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ، وخلعوا هشاما المؤيد.
وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعقاب الخلفاء ، ولقّبوه المهدي بالله ، وطار الخبر إلى عبد الرحمن الحاجب بن المنصور بمكانه من الثغر ، فانفضّ جمعه ، وقفل إلى الحضرة مدلّا بمكانه ، زعيما بنفسه ، حتى إذا قرب من الحضرة تسلّل عنه الناس من الجند ووجوه البربر ، ولحقوا بقرطبة ، وبايعوا المهدي القائم بالأمر ، وأغروه بعبد الرحمن الحاجب ، لكونه ماجنا مستهترا غير صالح للأمر ، فاعترضه منهم من قبض عليه ، واحتزّ رأسه ، وحمله إلى المهدي والي الجماعة.
وذهبت دولة العامريين كأن لم تكن ، ولله عاقبة الأمور.
وفي المهدي يقول بعضهم : [مخلع البسيط]
قد قام مهديّنا ولكن |
|
بملّة الفسق والمجون |
وشارك الناس في حريم |
|
لولاه ما زال بالمصون |
من كان من قبل ذا أجما |
|
فاليوم قد صار ذا قرون (١) |
وكان رؤساء البربر وزناتة لحقوا بالمهديّ لمّا رأوا من سوء تدبير عبد الرحمن وانتقاض أمره. وكانت الأموية تعتدّ عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريين ، وتنسب تغلّب المنصور
__________________
(١) الأجمّ : الكبش ليس له قرنان.