أنه ليس في الوجود ، أغوار ولا نجود ، إلّا السماء والماء وذلك السّفين ، ومن في قبر جوفه دفين ، مع ترقّب هجوم العدوّ ، في الرواح والغدوّ ، لاجتيازه على عدّة من بلاد الحرب ، دمّر الله سبحانه من فيها وأذهب بفتحها عن المسلمين الكرب ، لا سيما مالطة الملعونة ، التي يتحقّق من خلص من معرّتها (١) أنه أمدّ بتأييد إلهيّ ومعونة ، فقد اعترضت في لهوات البحر الشامي شجا ، وقلّ من ركبه فأفلت من كيدها ونجا ، فزادنا ذلك الحذر ، الذي لم يبق ولم يذر ، على ما وصفناه من هول البحر قلقا ، وأجرينا إذ ذاك في ميدان الإلقاء باليد إلى التهلكة طلقا ، وتشتّتت أفكارنا فرقا ، وذبنا أسى وندما وفرقا ، إذ البحر وحده لا كميّ يقارعه ، ولا قويّ يصارعه ، ولا شكل يضارعه ، لا يؤمن على كل حال (٢) ، يفرّق بين عاطل وحال ، ولا بين أعزل وشاك ، ومتباك وباك : [الرجز]
ثلاثة ليس لها أمان |
|
البحر والسّلطان والزّمان |
فكيف وقد انضمّ إليه خوف العدوّ الغادر الخائن والكافر الحائن (٣) ، إلى أن قضى الله بالنجاة وكلّ ما أراد فهو الكائن ، وإن نهى عنه وأخطأ المائن (٤) ، فرأينا البرّ وكأنّا قبل لم نره ، وشفيت به أعيننا من المره (٥) ، وحصل بعد الشدّة الفرج ، وشممنا من السلامة أطيب الأرج (٦) ، فيا لها من نعمة كشفت عن وجهها النّقاب ، يقلّ شكرا لها صوم الأحقاب وعتق الرقاب ، جعلنا الله بآياته معتبرين ، وعلى طاعته مصطبرين ، ولم نخل في البرّ من معاناة خطوب ، ومداراة وجوه للمتاعب ذات تجهّم وقطوب ، فكم جبنا منه مهامه فيحا (٧) ، ومسحنا بالخطا منها أثيرا وصفيحا ، وفلّينا الفجاج ، وقرأنا من الطرق خطوطا ذات استقامة واعوجاج ، وقلوب الرفقة من الفرقة في اضطراب وارتجاج ، وربما عميت على المجتهد الأدلّة التي يحصل بها على المذهب الاحتجاج ، فترى الأنفاس تعثّر في زفرة الأشواق ، والأجسام قد زرّت عليها من التعب الأطواق ، هذا واللّيل بصفحة البدر مرتاب ، وقد شدّت رحال وأقتاب ، وزمّت ركاب ورفعت أحداج ، وفريت من الدّعة بمدية النّصب أوداج ، وتساوى في السير نهار مشرق وليل مقمر أو داج ، وأديم التأويب والإسآد ، وحمل الغربة قد أثقل وآد ، ثم وصلنا بعد خوض بحار ، يدهش فيها الفكر ويحار ، وجوب فياف مجاهل ، يضلّ فيها القطا عن المناهل ، إلى مصر المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع ، وشاهدنا كثيرا من محاسنها التي تعجز عن وصفها القوافي
__________________
(١) المعرّة : الإثم ، الخطيئة.
(٢) في ب : ولا يؤمن على حال.
(٣) الكافر الحائن : الذي لم يهتد إلى الرشاد.
(٤) المائن : الكاذب.
(٥) المره : فساد العين لتحرك الكحل.
(٦) الأرج : الريح الطيبة.
(٧) الفيح : الواسعة.