الذي هو عام تسعة وثلاثين وألف مكة خمس مرات ، حصلت لي بالمجاورة فيها المسرّات ، وأمليت فيها على قصد التبرّك دروسا عديدة ، والله يجعل أيام العمر بالعود إليها مديدة ، ووفدت على طيبة المعظّمة ميمّما مناهجها السديدة ، سبع مرار ، وأطفأت بالعود إليها ما بالأكباد الحرار ، واستضأت بتلك الأنوار ، وألّفت بحضرته صلّى الله عليه وسلّم بعض ما منّ الله به عليّ في ذلك الجوار ، وأمليت الحديث النبويّ بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع ، ونلت بذلك وغيره ـ ولله المنّة ـ ما لم يكن لي فيه مطمح ولا مطمع ، ثم أبت إلى مصر مفوّضا لله جميع الأمور ، ملازما خدمة العلم الشريف بالأزهر المعمور ، وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة ، فتحرّكت همّتي أوائل رجب هذه السنة للعود للبيت المقدّس ، وتجديد العهد بالمحلّ الذي هو على التقوى مؤسّس ، فوصلت أواسط رجب ، وأقمت فيه نحو خمسة وعشرين يوما بدا لي فيها بفضل الله وجه الرشد وما احتجب. وألقيت عدة دروس بالأقصى والصخرة المنيفة ، وزرت مقام الخليل ومن معه من الأنبياء ذوي المقامات الشريفة ، وكنت حقيقا بأن أنشد قول ابن مطروح (١) ، في ذلك المقام الذي فضله معروف وأمره مشروح : [الوافر]
خليل الله ، قد جئناك نرجو |
|
شفاعتك التي ليست تردّ |
أنلنا دعوة واشفع تشفّع |
|
إلى من لا يخيب لديه قصد |
وقل يا ربّ أضياف ووفد |
|
لهم بمحمّد صلة وعهد |
أتوا يستغفرونك من ذنوب |
|
عظام لا تعدّ ولا تحدّ |
إذا وزنت بيذبل أو شمام |
|
رجحن ودونها رضوى وأحد (٢) |
ولكن لا يضيق العفو عنهم |
|
وكيف يضيق وهو لهم معدّ |
وقد سألوا رضاك على لساني |
|
إلهي ما أجيب وما أردّ |
فيا مولاهم عطفا عليهم |
|
فهم جمع أتوك وأنت فرد |
ثم استوعبت أكثر تلك المزارات المباركة كمزار موسى الكليم ، على نبيّنا وعليهم وعلى سائر المرسلين والأنبياء أجمعين أفضل الصلاة والتسليم ، ثم حدث لي منتصف شعبان ، عزم على الرحلة إلى المدينة التي ظهر فضلها وبان ، دمشق الشام ذات الحسن والبهاء والحياء
__________________
(١) هو جمال الدين يحيى بن عيسى المتوفى سنة ٦٤٩ ه. شاعر مصري (وفيات الأعيان ٥ / ٣٠٢).
(٢) يذبل ، وشمام ، ورضوى ، وأحد : أسماء جبال.