الرعاية مطلول (١) ، وجيب النصيحة مملول ، والتّنّور السلطاني بنار اختلاف الكلمة ملتهب ، والعدوّ ينتهز الفرصة ويستلب الأنفس الأموال وينتهب ، وليس له في غير قطع شأفة المسلمين ابتغاء ، وإن عقد المهادنة في بعض الأحيان فهو يسرّ حسوا في ارتغاء ، وكلاب الباطل في دماء أهل الحق والغة ولله سبحانه وتعالى في خلقه إرادة نافذة وحكمة بالغة ، فرقع لسان الدين ثوب الأندلس ورفاه ، وأرغم ـ رحمه الله! ـ الكفر الذي فغرفاه ، وشمّر عن ساعد اجتهاده ، وحضّ باللسان وباليد على دفاعه وجهاده ، حتى لاحت للنصر بوارق ، وأمنت بالحزم الطوارىء والطوارق ، ثم ضرب الدهر ضربانه ، وأحرق الحاسد بنار أحقاده أنضر بانه ، وأظهر ما في قلبه على لسان الدين وأبانه ، وتقرّب الوشاة ، وهم ممّن كان يخدمه ويغشاه ، إلى سلطانه الذي كان عزّة أوطانه الذي كان يأمنه ولا يخشاه ، حتى فسد عليه ضميره ، وتكدّر ومن يسمع يخل نميره ، فأحسّ بظاهر التغيّر ، وصار في الباطن من أهل التحير ، وأجال قداح آرائه ، والتفت إلى جهة العدوّ من ورائه ، ففرّ مشمّرا عن ذيله في لمّة من خيله ، إلى أسد العرين ، سلطان بني مرين ، وكان إذ ذاك بتلمسان ، وهو من أهل العلم والعدل والإحسان ، فاهتزّ لمقدمه ، ولقيه بخاصّته وخدمه ، وأكرم مثواه ، وجعله صاحب نجواه ، ثم أدرك السلطان الحمام (٢) ، وكسف بدره وقت التمام ، فرجع لسان الدين إلى فاس ، واستنشق بها أطيب الأنفاس ، وكثرت بعد ذلك الأهوال ، وتغيّرت بسببه بين رؤساء العدوة والأندلس الأحوال ، فما نجا من مكر العدا ولا سلم ، وآل أمره من الاغتيال وما نفع الاحتيال إلى ما علم ، على يدي (٣) بعض أعدائه ، الذين كانوا يتربّصون الدوائر لإردائه ، فأصبح كأمس الذاهب ، وصارت أمواله وضياعه عرضة للناهب ، وغصّ بذلك من كان من أودّائه ، وأخذ الله ثاره ، من بعض من حرّك عليه المكر وأثاره ، وتسبب في هلاكه ، حتى انتثرت جواهر أسلاكه ، ومات بدائه. فالعيون إلى هذا الوقت على لسان الدين باكية ، ونفوس الأكابر وغيرهم مما فعل به شاكية ، والألسنة والأقلام لمقاماته في الإسلام حاكية.
فمن كان بهذه السّمات وأكثر منها موصوفا ، لا يقدر مثلي على تحبير التعبير عنه ويخشى أن تكون فكرته كخرقاء نقضت قطنا أو صوفا.
ثم إني لمّا تكرّر عليّ في هذا الغرض الإلحاح ، ولم تقبل أعذاري التي زندها شحاح (٤) ، عزمت على الإجابة لما للمذكور عليّ من الحقوق ، وكيف أقابل برّه حفظه الله بالعقوق؟ وهو
__________________
(١) في ب : محلول.
(٢) الحمام : الموت.
(٣) في ب : يد.
(٤) الزند الشحاح ـ بفتح الشين ـ الذي لا يوري نارا.