قلت : كل ما ذكر رحمه الله تعالى في وصف دمشق الشام وأهلها فهو في نفس الأمر يسير ، ومن ذا يروم (١) عدّ محاسنها التي إذا رجع البصر فيها انقلب وهو حسير (٢) ، وقد أطنب الناس فيها ، وما بقي أكثر مما ذكروه ، وقد دخلتها أواخر شعبان من سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة ، وأقمت بها إلى أوائل شوال من السنة ، وارتحلت عنها إلى مصر وقد تركت القلب فيها رهنا ، وملك هواها مني فكرا وذهنا ، فكأنها بلدي التي بها ربيت ، وقراري الذي لي به أهل وبيت ، لأن أهلها عاملوني بما ليس لي بشكره يدان ، وها أنا إلى هذا التاريخ لا أرتاح لغيرها من البلدان ، ولا يشوقني ذكر أرض بابل ولا بغدان (٣) ، فالله سبحانه تعالى يعطّر منها بالعافية الأردان.
وقد عنّ لي (٤) أن أذكر جملة مما قيل فيها من الأمداح الرائقة ، وأسرد ما خاطبني به أهلها من القصائد الفائقة ، فأقول :
قال البدر بن حبيب (٥) : [بحر الكامل]
يمّم دمشق ومل إلى غربيها |
|
والمح محاسن حسن جامع يلبغا |
من قال من حسد رأيت نظيره |
|
بين الجوامع في البلاد فقد لغا |
وقال في كتاب «شنف السامع ، بوصف الجامع» [بحر الكامل].
لله ما أحلى محاسن جلّق |
|
وجهاتها اللّاتي تروق وتعذب |
بيزيد ربوتها الفرات وجنكها |
|
يا صاح كم كنّا نخوض ونلعب |
وقال فيه أيضا : [بحر الرجز]
لله ما أجمل وصف جلّق |
|
وما حوى جامعها المنفرد |
قد أطرب الناس بصوت صيته |
|
وكيف لا يطرب وهو معبد |
وقال في ذكر باب الجامع المعروف بالزيادة : [بحر الكامل]
يا راغبا في غير جامع جلق |
|
هل يستوي الممنوع والممنوح |
__________________
(١) يروم : يطلب.
(٢) الحسير : المتعب المعين.
(٣) بغدان : لغة في بغداد.
(٤) عنّ لي : خطر لي ، عرض لي.
(٥) البدر بن حبيب : هو بدر الدين الحسن بن حبيب الحلبي المتوفى سنة ٧٧٩ (انظر الدرر الكامنة ج ٢ ص ٢٩).