جؤذر وفائق فتياه ذلك ، وعزما على صرف البيعة إلى أخيه المغيرة ، وكان فائق قد قال له : إن هذا لا يتمّ لنا إلّا بقتل جعفر المصحفي ، فقال له جؤذر : ونستفتح أمرنا بسفك دم شيخ مولانا؟ فقال له : هو والله ما أقول لك ، ثم بعثا إلى المصحفي ونعيا إليه الحكم ، وعرّفاه رأيهما في المغيرة ، فقال لهما المصحفي : وهل أنا إلّا تبع لكما ، وأنتما صاحبا القصر ، ومدبّرا الأمر؟ ؛ فشرعا في تدبير ما عزما عليه ، وخرج المصحفي وجمع أجناده وقوّاده ونعى إليهم الحكم ، وعرّفهم مقصود جؤذر وفائق في المغيرة ، وقال : إن بقينا على ابن مولانا كانت الدولة (١) لنا ، وإن بدلنا استبدلنا (٢) ، فقالوا : الرأي رأيك ، فبادر المصحفي بإنفاذ محمد بن أبي عامر مع طائفة من الجند إلى دار المغيرة لقتله ، فوافاه ولا خبر عنده ، فنعى إليه الحكم أخاه ، فجزع ، وعرّفه جلوس ابنه هشام في الخلافة ، فقال : أنا سامع مطيع ، فكتب إلى المصحفي بحاله ، وما هو عليه من الاستجابة ، فأجابه المصحفي بالقبض عليه ، وإلّا وجّه غيره ليقتله ، فقتله خنقا. فلمّا قتل المغيرة واستوثق الأمر لهشام بن الحكم افتتح المصحفي أمره بالتواضع والسياسة واطّراح الكبر ومساواة الوزراء في الفرش ، وكان ذلك من أوّل ما استحسن منه ، وتوفّر على الاستئثار بالأعمال والاحتجان (٣) للأموال ، وعارضه محمد بن أبي عامر ، فتّى ماجد أخذ معه بطرفي نقيض بالبخل جودا وبالاستبداد أثرة ، وتملّك قلوب الرجال إلى أن تحرّكت همّته للمشاركة في التدبير بحقّ الوزارة ، وقوي على أمره بنظره في الوكالة ، وخدمته للسيدة صبح أمّ هشام ، وكانت حاله عند جميع الخدم (٤) أفضل الأحوال بتصدّيه لمواقع الإرادة ، ومبالغته في تأدية لطيف الخدمة ، فأخرجت (٥) له أم هشام الخليفة إلى الحاجب جعفر المصحفي بأن لا ينفرد عنه برأي ، وكان غير متخيّل منه سكوتا إلى ثقته ، فامتثل الأمر وأطلعه على سرّه ، وبالغ في برّه ، وبالغ محمد بن أبي عامر في مخادعته والنصح له ، فوصل المصحفي يده بيده ، واستراح إلى كفايته ، وابن أبي عامر يمكر به ، ويضرّب عليه ، ويغري به الحرّة (٦) ، ويناقضه في أكثر ما يعامل به الناس ، ويقضي حوائجهم ، ولم يزل على ما هذه سبيله إلى أن انحلّ أمر المصحفي ، وهوى نجمه ، وتفرّد محمد بن أبي عامر بالأمر ، ومنع أصحاب الحكم وأجلاهم
__________________
(١) كانت الدولة لنا : كانت الغلبة لنا.
(٢) في ب «استبدل بنا».
(٣) احتجن المال : ضمه واحتواه. واحتجانه : احتواؤه.
(٤) في ب «جميع الحزم».
(٥) في ب «فأخرجن له أم هشام».
(٦) في ب : «الحسدة».