إلى صفرة كفّيه؟ ويقول في بعض الأحيان : لو كانت به شجّة (١) لقلت إنه هو بلا شكّ ، فقضى الله أنّ تلك الشّجّة حصلت للمنصور يوم ضربه غالب بعد موت الحكم بمدّة.
قال ابن حيان (٢) : وكان بين المصحفي وغالب صاحب مدينة سالم وشيخ الموالي وفارس الأندلس عداوة عظيمة ، ومباينة شديدة ، ومقاطعة مستحكمة ، وأعجز المصحفي أمره ، وضعف عن مباراته ، وشكا ذلك إلى الوزراء ، فأشاروا عليه بملاطفته واستصلاحه ، وشعر بذلك ابن أبي عامر ، فأقبل على خدمته ، وتجرّد لإتمام إرادته ، ولم يزل على ذلك حتى خرج الأمر بأن ينهض غالب إلى تقدمة جيش الثغر ، وخرج ابن أبي عامر إلى غزوته الثانية ، واجتمع به ، وتعاقدا على الإيقاع بالمصحفي ، وقفل ابن عامر ظافرا غانما ، وبعد صيته ، فخرج أمر الخليفة هشام بصرف المصحفي عن المدينة ، وكانت في يده يومئذ ، وخلع على ابن أبي عامر ولا خبر عند المصحفي ، وملك ابن أبي عامر الباب بولايته للشرطة ، وأخذ عن (٣) المصحفي وجوه الحيلة ، وخلّاه وليس بيده من الأمر إلّا أقلّه ، وكان ذلك بإعانة غالب له ، وضبط المدينة ضبطا أنسى به أهل الحضرة من سلف من الكفاة (٤) وتولّى السياسة ، وانهمك ابن أبي عامر في صحبة غالب ، ففطن المصحفي لتدبير ابن أبي عامر عليه ، فكاتب غالبا يستصلحه ، وخطب أسماء بنته لابنه عثمان ، فأجابه غالب لذلك ، وكادت المصاهرة تتمّ له ، وبلغ ابن أبي عامر الأمر ، فقامت قيامته ، وكاتب غالبا يخوّفه الحيلة ، ويهيج حقوده ، وألقى عليه أهل الدار وكاتبوه فصرفوه عن ذلك ، ورجع غالب إلى ابن أبي عامر ، فأنكحه البنت المذكورة ، وتمّ له العقد في محرم سنة سبع وستين وثلاثمائة ، فأدخل السلطان تلك الابنة إلى قصره ، وجهّزها إلى محمد بن أبي عامر من قبله ، فظهر أمره وعزّ جانبه (٥) ، وكثر رجاله ، وصار جعفر المصحفي بالنسبة إليه كل شيء ، واستقدم السلطان غالبا ، وقلّده الحجابة شركة مع جعفر المصحفي ، ودخل ابن أبي عامر على ابنته ليلة النيروز ، وكانت أعظم ليلة عرس في الأندلس ، وأيقن المصحفي بالنكبة وكفّ عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء من التدبير ، وابن أبي عامر يسايره ولا يظاهره ، وانفضّ عنه الناس ، وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر قرطبة ويروح وهو وحده ، وليس بيده من الحجابة سوى اسمها ، وعوقب المصحفي
__________________
(١) الشجة : الجرح في الرأس.
(٢) عن الذخيرة : ٤٥ بإيجاز.
(٣) في ب «وأخذ على المصحفي».
(٤) الكفاة : جمع كاف ، وهو الذي يقوم بالأمر بكفاءة ، ولا يحتاج لمساعدة.
(٥) عز جانبه : قوي.