نفسه بأنّ شيئا من هذه التآليف لو كان منّا موجودا لكان إليهم منقولا ، وعندهم ظاهرا ، لقرب المزار ، وكثرة السّفّار (١) ، وتردّدهم إليهم ، وتكرّرهم علينا. ثم لمّا ضمّنا المجلس الحافل بأصناف الآداب ، والمشهد الآهل بأنواع العلوم ، والقصر المعمور بأنواع الفضائل ، والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني وجليل المعالي ، قرارة المجد ومحلّ السؤدد ، ومحطّ رحال الخائفين ، وملقى عصا التّسيار عند الرئيس الأجلّ الشريف قديمه وحسبه ، الرفيع حديثه ومكتسبه ، الذي أجله عن كل خطّة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته ، ولا ينال حضره هويناه (٢) ، وأربى به عن كلّ مرتبة يلحقه فيها من لا يسمو إلى المكارم سموّه ، ولا يدنو من المعالي دنوّه ، ولا يعلو في حميد الخلال علوّه ، بل أكتفي من مدحه باسمه المشهور ، وأجتزي (٣) من الإطالة في تقريظه بمنتماه المذكور ، فحسبي بذينك العلمين دليلا على سعيه المشكور ، وفضله المشهور ، أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت (٤) أطال الله بقاءه! وأدام اعتلاءه! ولا عطّل الحامدين من تحليهم بحلاه! ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه! فرأيته أعزّه الله تعالى حريصا على أن يجاوب هذا المخاطب ، وراغبا في أن يبين له ما لعلّه قد رآه فنسي أو بعد عنه فخفي ، فتناولت الجواب المذكور بعد أن بلغني أن ذلك المخاطب قد مات ، رحمنا الله تعالى وإياه! فلم يكن لقصده بالجواب معنى ، وقد صارت المقابر له مغنى ، فلسنا بمسمعين من في القبور ، فصرفت عنان الخطاب إليك ، إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه ، ومن لدنك وصلت إلى الرسالة المعارضة ، وفي وصول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كفاية لمن غاب عنه من أخبار تآليف أهل بلدنا مثل ما غاب عن هذا الباحث الأول ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، وإن كنت في إخباري إياك بما أرسمه في كتابي هذا كمهد إلى البركان نار الحباحب (٥) ، وباني صوّى (٦) في مهيع القصد اللاحب ، فإنك وإن كنت المقصود والمواجه ، فإنما المراد من أهل تلك الناحية من نأى عنه علم ما استجلبه السائل الماضي ، وما توفيقي إلّا بالله سبحانه.
__________________
(١) السّفّار : المسافرون.
(٢) الحضر : بضم الحاء وسكون الضاء : شدة العدو. والهوينى : التؤدة والتمهل والرفق.
(٣) أجتزىء : أكتفي.
(٤) البونت : من أعمال بلنسية ، استقل فيها بنو قاسم الفهريون بعد الفتنة وأولهم عبد الله بن قاسم وخلفه يمن الدولة (انظر أعمال الأعلام : ٢٠٨).
(٥) الحباحب : ذباب يطير ليلا له شعاع في ذنبه كالسراج.
(٦) الصوى : علامات توضع في الطرق لهداية السالكين.