فأما مآثر بلدنا فقد ألّف في ذلك أحمد بن محمد الرازي التاريخي كتبا جمّة : منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها ، وأمّهات مدنها وأجنادها الستّة ، وخواصّ كلّ بلد منها ، وما فيه ممّا ليس في غيره ، وهو كتاب مريح مليح ، وأنا أقول : لو لم يكن لأندلسنا إلّا ما رسول الله صلى الله عليه وسلم بشّر به ووصف أسلافنا المجاهدين فيه بصفات الملوك على الأسرّة في الحديث الذي رويناه من طريق أبي حمزة أنس بن مالك أنّ خالته أم حرام بنت ملحان زوج أبي الوليد عبادة بن الصامت ، رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين ، حدّثته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه أخبرها بذلك ، لكفي شرفا بذلك يسرّ عاجله ، ويغبط آجله.
فإن قال قائل : لعلّه (١) صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية وإقريطش ، وما الدليل على ما ادّعيته من أنه صلى الله عليه وسلم عنى الأندلس حتما؟ ومثل هذا من التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح ، وبيان لائح ، لا يحتمل التوجيه ، ولا يقبل التجريح (٢).
فالجواب ـ وبالله التوفيق ـ أنه صلى الله عليه وسلم ، قد أوتي جوامع الكلم ، وفصل الخطاب ، وأمر بالبيان لما أوحي إليه ، وقد أخبر في ذلك الحديث المتّصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمّته يركبون ثبج (٣) البحر غزاة واحدة بعد واحدة ، فسألته أم حرام أن يدعو ربّه تعالى أن يجعلها منهم ، فأخبرها صلى الله عليه وسلم وخبره الحقّ بأنها من الأولين ، وهذا من أعلام (٤) نبوّته صلى الله عليه وسلم ، وهو إخباره بالشيء قبل كونه (٥) ، وصحّ البرهان على رسالته بذلك ، وكانت من الغزاة إلى قبرس ، وخرّت عن بغلتها هناك ، فتوفيت ، رحمها الله تعالى! وهي أول غزاة ركب فيها المسلمون البحر ، فثبت يقينا أنّ الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشّر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت أم حرام منهم كما أخبر ، صلوات الله تعالى وسلامه عليه ، ولا سبيل أن يظنّ به وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان أنه يذكر طائفتين قد سمّى إحداهما أولى إلّا والتالية لها ثانية ، فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد ، وهذا مقتضى (٦) طبيعة صناعة المنطق ، إذ لا تكون الأولى أولى إلّا لثانية ، ولا الثانية ثانية إلّا لأولى ، فلا سبيل إلى ذكر ثالث إلّا بعد ثان ضرورة ، وهو صلى الله عليه وسلم إنما ذكر طائفتين ، وبشّر بفئتين ، وسمّى إحداهما الأولين ، فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين ،
__________________
(١) في ب : «فلعله».
(٢) التجريح : النقد اللاذع.
(٣) ثبج البحر : وسطه. وفي ب : «ثبج هذا البحر».
(٤) أعلام نبوته : أراد دلائل نبوته.
(٥) قبل كونه : أي قبل حدوثه.
(٦) في ب : «وهذا يقتضي».