الأديب الشهير أبي الحسين بن جبير صاحب الرحلة ، وقد قدّمنا ترجمته في الباب الخامس من هذا الكتاب ، وذكرنا هنالك أنه كان من أهل المروءات عاشقا في قضاء الحوائج والسعي في حقوق الإخوان ، وأنشدنا هنالك قوله :
يحسب الناس بأني متعب
إلى آخره (١).
وقد ذكر ذلك كلّه صاحب «الملتمس» ثم قال ـ أعني صاحب الملتمس ـ :
ومن أغرب ما يحكى أني كنت أحرص الناس على أن أصاهر قاضي غرناطة أبا محمد عبد المنعم بن الفرس (٢) ، فجعلته ـ يعني ابن جبير ـ الواسطة حتى تيسّر ذلك ، فلم يوفّق الله ما بيني وبين الزوجة ، فجئته وشكوت له ذلك ، فقال : أنا ما كان القصد لي في اجتماعكما ، ولكن سعيت جهدي في غرضك ، وها أنا أسعى أيضا في افتراقكا (٣) ، إذ هو من غرضك ، وخرج في الحين ففصل القضية ، ولم أر في وجهه أولا ولا آخرا عنوانا لامتنان ولا تصعيب ، ثم إنه طرق بابي ، ففتحت له ، ودخل وفي يده محفظة فيها مائة دينار مؤمنية ، ثم قال : يا ابن أخي ، اعلم أني كنت السبب في هذه القضية ، ولم أشكّ أنك خسرت فيها ما يقارب هذا القدر الذي وجدته الآن عند عمّك ، فبالله إلّا ما سررتني بقبوله ، فقلت له : أنا ما أستحيي منك في هذا الأمر ، والله إن أخذت هذا المال لأتلفنّه فيما أتلفت فيه مال والدي من أمور الشباب ، ولا يحلّ لك أن تمكنني منه (٤) بعد أن شرحت لك أمري ، فتبسّم وقال : لقد احتلت في الخروج عن المنّة بحيلة ، وانصرف بماله ، انتهى.
ثم قال صاحب «الملتمس» : وتذاكرنا يوما معه حالة الزاهد أبي عمران المارتلي ، فقال: صحبته مدّة فما رأيت مثله ، وأنشدني شعرين ما نسيتهما ، ولا أنساهما ما استطعت ، فالأول قوله : [المتقارب]
إلى كم أقول فلا أفعل |
|
وكم ذا أحوم ولا أنزل |
وأزجر عيني فلا ترعوي |
|
وأنصح نفسي فلا تقبل (٥) |
وكم ذا تعلّل لي ويحها |
|
بعلّ وسوف وكم تمطل |
__________________
(١) «إلى آخره» ساقطة من ب.
(٢) في ب ، ه : «ابن الفرس».
(٣) في ب : «افتراقكما».
(٤) في ه : «أن تمكنني به».
(٥) ترعوي : ترجع ، تمتنع.