والآخر من الأول هو الثاني الذي أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خير القرون بعد قرنه ، وأولى القرون بكل فضل بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه خير من كلّ قرن بعده ، ثم ركب البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية ، وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري ، وأمّا صقلية فإنها فتحت صدر أيام الأغالبة سنة ٢١٢ ، أيام قاد إليها السفن غازيا أسد بن الفرات القاضي صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى ، وبها مات ، وأما إقريطش فإنها فتحت بعد الثلاث والمائتين (١) افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب المعروف بابن الغليظ ، من أهل قرية بطروج من عمل فحص البلّوط المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس ، وكان من فلّ الرّبضيين ، وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في أيام أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة ٣٥٠ ، وكان أكثر المفتتحين لها أهل الأندلس.
وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة مسقط رؤوسنا ، ومعقّ (٢) تمائمنا ، مع سرّ من رأى (٣) في إقليم واحد ، فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا ، وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلّا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور ، وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدلّ عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها ، فلها من ذلك على كلّ حال حظّ يفوق حظّ أكثر البلاد ، بارتفاع أحد النّيّرين بها تسعين درجة ، وذلك من أدلّة التمكّن في العلوم والنفاذ فيها عند من ذكرنا ، وقد صدق ذلك الخبر ، وأبانته التجربة ، فكان أهلها من التمكّن في علوم القراءات والروايات وحفظ كثير من الفقه والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء ، واسع العطن ، متنائي الأقطار ، فسيح المجال ، والذي نعاه علينا الكاتب المذكور لو كان كما ذكر لكنّا فيه شركاء لأكثر أمّهات الحواضر ، وجلائل البلاد ، ومتّسعات الأعمال ، فهذه القيروان بلد المخاطب لنا ، ما أذكر أني رأيت في أخبارها تأليفا غير «المعرب ، عن أخبار المغرب» وحاشا تآليف (٤) محمد بن يوسف الوراق ، فإنه ألّف للمستنصر رحمه الله تعالى في «مسالك إفريقية وممالكها» ديوانا ضخما ، وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم كتبا جمّة ، وكذلك ألّف أيضا في أخبار تيهرت ووهران وتونس (٥)
__________________
(١) في الجذوة : «بعد الثلاثين والمائتين» وفي معجم البلدان لياقوت الحموي «بعد سنة ٢٥٠».
(٢) معق تمائمنا : أخذه من قول الشاعر :
بلاد بها عق الشباب تمائمي |
|
وأول أرض مس جلدي ترابها |
(٣) سرّ من رأى : سامراء.
(٤) في ب : «تواليف».
(٥) في ب ، ه : «وتنس».