يقولون الابتعاد من الشعراء أولى من الاقتراب ، نعم ذلك لمن ليس له مفاخر يريد تخليدها ، ولا أياد يرغب في نشرها ، فأين الذين قيل فيهم (١) : [الطويل]
على مكثريهم رزق من يعتريهم |
|
وعند المقلّين السماحة والبذل |
وأين الذي قيل فيه (٢) : [المديد]
إنما الدنيا أبو دلف |
|
بين مبداه ومحتضره |
فإذا ولّى أبو دلف |
|
ولّت الدنيا على أثره |
أما كان في الجاهلية والإسلام أكرم ممّن قيل فيه هذا القول؟ بلى ، ولكن صحبة الشعراء والإحسان إليهم أحيت غابر ذكرهم ، وخصّتهم بمفاخر عصرهم ، وغيرهم لم تخلّد الأمداح مآثرهم فدثر ذكرهم ، ودرس فخرهم ، انتهى.
ومن حكاياتهم في العدل أنه لمّا بنى المعتصم بن صمادح ملك ألمرية قصوره المعروفة بالصمادحية غصبوا أحد الصالحين في جنّة وألحقوها بالصمادحية ، وزعم ذلك الصالح أنها لأيتام من أقاربه ، فبينا المعتصم يوما يشرب على الساقية الداخلة إلى الصمادحية إذ وقعت عينه على أنبوب قصبة مشمع ، فأمر من يأتيه به ، فلمّا أزال عنه الشمع وجد فيه ورقة فيها «إذا وقفت أيها الغاصب على هذه الورقة فاذكر قول الله تعالى (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣)) [سورة ص ، الآية : ٢٣] لا إله إلّا الله ، أنت ملك قد وسّع الله تعالى عليك ، ومكّن لك في الأرض ، ويحملك الحرص على ما يفنى أن تضمّ إلى جنّتك الواسعة العظيمة قطعة أرض لأيتام حرّمت بها حلالها ، وخبثت طيبها ، ولئن تحجّبت عني بسلطانك ، واقتدرت عليّ بعظم شأنك ، فنجتمع غدا بين يدي من لا يحجب عن حقّ ، ولا تضيع عنده شكوى. فلمّا استوعب قراءتها دمعت عيناه ، وأخذته خشية خيف عليه منها ، وكانت عادته رحمه الله تعالى ، وقال : عليّ بالمشتغلين ببناء الصمادحية ، فأحضروا ، فاستفسرهم عمّا زعم الرجل ، فلم يسعهم إلّا صدقه ، واعتذروا بأنّ نقصها من الصمادحية يعيبها في عين الناظر ، فاستشاط غضبا وقال : والله إنّ عيبها في عين الخالق أقبح من عيبها في عين المخلوق ، ثم أمر بأن تصرف إليه (٣) ، واحتمل تعويرها لصمادحيته. ولقد مرّ بعض أعيان ألمرية وأخيارها مع جماعة على هذا المكان الذي أخرجت منه جنّة الأيتام فقال أحدهم : والله
__________________
(١) البيت لزهير بن أبي سلمى. انظر ديوانه (شرح الأعلم ، ص ٢٢).
(٢) انظر طبقات ابن المعتز ، ص ١٧٢. والبيتان لعلي بن جبلة.
(٣) في ب ، ه : «بأن تصرف عليه».