لقد عورت هذه القطعة هذا المنظر العجيب ، فقال له : اسكت ، فو الله إنّ هذه القطعة طراز هذا المنظر وفخره ، وكان المعتصم إذا نظر إليها قال : أشعرتم أن هذا المكان المعوجّ في عيني أحسن من سائر ما استقام من الصمادحية؟ ثم إنّ وزيره ابن أرقم لم يزل يلاطف الشيخ والأيتام حتى باعوها عن رضا بما اشتهوا من الثمن ، وذلك بعد مدة طويلة ، فاستقام بها بناء الصمادحية ، وحصل للمعتصم حسن السمعة في الناس ، والجزاء عند الله تعالى : ولمّا مات المعتصم بن صمادح ركب البحر ابنه وليّ عهده الواثق عزّ الدولة أبو محمد عبد الله ، وفارق الملك كما أوصاه المعتصم والده وفي ذلك يقول : [الطويل]
لك الحمد بعد الملك أصبحت خاملا |
|
بأرض اغتراب لا أمرّ ولا أحلي (١) |
وقد أصدأت فيها الجذاذة أنملي |
|
كما نسيت ركض الجياد بها رجلي (٢) |
فلا مسمعي يصغي لنغمة شاعر |
|
وكفّي لا تمتدّ يوما إلى بذل |
قال ابن اللبانة الشاعر : ما علمت حقيقة جور الدهر حتى اجتمعت ببجاية مع عزّ الدولة بن المعتصم بن صمادح فإني رأيت منه خير من يجتمع به ، كأنه لم يخلقه الله تعالى إلّا للملك والرياسة وإحياء الفضائل ، ونظرت إلى همّته تنمّ من تحت خموله كما ينمّ فرند السيف وكرمه من تحت الصدأ (٣) ، مع حفظه لفنون الأدب والتواريخ وحسن استماعه وإسماعه ، ورقّة طباعه ولطافة ذهنه ، ولقد ذكرته لأحد من صحبته من الأدباء في ذلك المكان ووصفته بهذه الصفات ، فتشوّق إلى الاجتماع به ، ورغب إليّ في أن أستأذنه في ذلك ، فلما أعلمت عزّ الدولة قال : يا أبا بكر ، لتعلم أنّا اليوم في خمول وضيق لا يتّسع لنا معهما ، ولا يحمل بنا الاجتماع مع أحد ، لا سيما مع ذي أدب ونباهة يلقانا بعين الرحمة ، ويزورنا بمنّة التفضّل في زيارتنا ، ونكابد من ألفاظ توجّعه وألحاظ تفجّعه ما يجدّد لنا همّا قد بلي ، ويحيي كمدا قد فني ، وما لنا قدرة على أن نجود عليه بما يرضى به عن همّتنا ، فدعنا كأننا في قبر ، نتدرع لسهام الدهر بدرع الصبر ، وأما أنت فقد اختلطت بنا اختلاط اللحم بالدم ، وامتزجت امتزاج الماء بالخمر ، فكأنّا لم نكشف حالنا لسوانا ، ولا أظهرنا ما بنا لغيرنا ، فلا تحمل غيرك محملك ، قال ابن اللبانة : فملأ والله سمعي بلاغة لا تصدر إلّا عن سداد ونفس أبيّة متمكّنة من
__________________
(١) في ه : «لك الحمد بعد الملك أصبح خاملا».
(٢) في أ : «وقد أصدأت فيها الجذاذة منهلي».
(٣) فرند السيف : ما يرى في السيف من تموجات الضوء.