الإقدام ، ولم يكن ملاك النصر بيده ، فخذله من وثق به ، ونكل عنه من كان معه ، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه ، حتى ملك مقبلا غير مدبر ، مبليا غير فشل ، فجوزي خيرا عن نفسه وسلطانه ، فإنه لا طريق للملام عليه ، وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم ، وأيضا فإنه ما قصد أن يجود بنفسه إلّا رضا للأمير ، واجتنابا لسخطه ، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضا جالب التقصير فذلك معدود في سوء الحظ ، فأعجب الأمير كلامه ، وشكر له وفاءه ، وأقصر فيما بعد عن تفنيد هاشم ، وسعى في تخليصه ، واتّصل الخبر بهاشم ، فكتب إليه : الصديق من صدقك في الشدّة لا في الرخاء ، والأخ من ذبّ عنك في الغيب لا في المشهد ، والوفيّ من وفى لك إذا خانك زمان ، وقد أتاني من كلامك بين يدي سيدنا ـ جعل الله تعالى نعمته سرمدا! ـ ما زادني بمودّتك اغتباطا ، وبصداقتك ارتباطا ، ولذلك ما كنت أشدّ يدي على وصلك ، وأخصّك (١) بإخائي ، وأنا الآن بموضع لا أقدر فيه على جزاء غير الثناء ، وأنت أقدر مني على أن تزيد ما بدأت به بأن تتمّ ما شرعت فيه ، حتى تتكمّل لك المنّة ، ويستوثق عقد الصداقة ، إن شاء الله تعالى ، وكتب إليه بشعر منه : [الطويل]
أيا ذاكري بالغيب في محفل به |
|
تصامت جمع عن جواب به نصري |
أتتني والبيداء بيني وبينها |
|
رقى كلمات خلّصتني من الأسر |
لئن قرّب الله اللقاء فإنني |
|
سأجزيك ما لا ينقضي غابر الدّهر (٢) |
فأجابه الوليد : خلصك الله أيها البدر من سرارك! وعجّل بطلوعك في أكمل تمامك وإبدارك (٣)! وصلني شكرك على أن قلت ما علمت ، ولم أخرج عن النصح للسلطان بما زكنته (٤) من ذلك ، والله تعالى شاهد ، على أنّ ذلك في مجالس غير المجلس المنقول لسيدي إن خفيت عن المخلوق فما تخفى عن الخالق ، ما أردت بها إلّا أداء بعض ما أعتقده لك ، وكم سهرت وأنا نائم ، وقمت في حقي وأنا قاعد ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ثم ذكر أبياتا لم تحضرني الآن.
ومن حكاياتهم في علوّ الهمّة في العلم والدنيا أنه دخل أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة جامع غرناطة ، وبه نحويّ حوله شباب يقرءون ، فنظروا إليه ، وقالوا له مستهزئين به : ما
__________________
(١) في ه : «وأخصه بإخائي» محرفا. والتصويب من بقية النسخ.
(٢) في ه : «فإن قرب الله اللقاء».
(٣) وإبدار البدر : طلوعه وتمامه.
(٤) في ه : «بما زكيته من ذلك». وزكن له بفتح الزاي وكسر الكاف : خالطه وكان معه.