ولنذكر جملة من ذكر الجلّة فنقول :
حكي عن عالم ألمريّة القاضي أبي الحسن مختار الرعيني ، وكان فيه حلاوة ولوذعية (١) ووقار وسكون ، أنه استدعاه يوما زهير ملك المريّة من مجلس حكمه ، فجاءه يمشي مشية قاض قليلا قليلا ، فاستعجله رسول زهير ، فلم يعجل ، فلمّا دخل عليه قال له : يا فقيه ، ما هذا البطء؟ فتأخّر إلى باب المجلس ، وطلب عصا ، وشمّر ثيابه ، فقال له زهير : ما هذا؟ قال : هذا يليق باستعجال الحاجب لي ، فوقع في خاطري أنه عزلني عن القضاء وولّاني الشرطة ، فضحك زهير واستحلاه ولم يعد إلى استعجاله.
وهذا القاضي هو القائل ـ وقد دخل حمّاما فجلس بإزائه عاميّ أساء الأدب عليه ـ : [الطويل]
ألا لعن الحمّام دارا فإنه |
|
سواء به ذو العلم والجهل في القدر |
تضيع به الآداب حتى كأنها |
|
مصابيح لم تنفق على طلعة الفجر |
وروي أنّ المقرئ أبا عبد الله محمد بن الفراء إمام النحو واللغة في زمانه ـ وكانت فيه فطنة ولوذعيّة ـ أبطأ خروجه يوما إلى تلامذته ، فطال بهم الكلام في المذاكرة فقال أحدهم نصف بيت ، وكان فيهم وسيم من أبناء الأعيان ، وكان ابن الفراء كثير الميل إليه ، فلمّا خرج قال له : يا أستاذ ، عملت نصف بيت ، وأريد أن تتمّه ، فقال : ما هو؟ فقال : [المتقارب]
ألا بأبي شادن أوطف (٢)
فقال الأستاذ ابن الفراء بديها : [المتقارب]
إذا كان وردك لا يقطف |
|
وثغر ثناياك لا يرشف |
فأيّ اضطرار بنا أن نقول : |
|
ألا بأبي شادن أوطف |
وهذا ابن الفراء هو القائل (٣) : [مجزوء الخفيف]
قيل لي : قد تبدّلا |
|
فاسل عنه كما سلا |
لك سمع وناظر |
|
وفؤاد فقلت : لا |
__________________
(١) لوذعية : ذكاء متوقد.
(٢) الأوطف : الكثير شعر الحاجبين والعينين ، مؤنثه وطفاء ، وجمعه وطف.
(٣) انظر زاد المسافر ص ١٠٠.