حتى إنه دفع مرة في موكب النصارى ، فصرع منهم وقتل ، وظهر منه ما أعجبت به نفسه ، فقال لشخص من خواصّه عالم بأمور الحرب : كيف رأيت؟ فقال : لو رآك السلطان لزاد فيما لك في بيت المال ، وأعلى مرتبتك ، أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام ، ويتعرّض بهلاك نفسه إلى هلاك من معه ، فقال له : دعني فإني لا أموت مرتين ، وإذا متّ أنا فلا عاش من بعدي.
ومن حكاياتهم في الظرف (١) : أنّ القاضي أبا عبد الله محمد بن عيسى من بني يحيى بن يحيى خرج إلى حضور جنازة ، وكان لرجل من إخوانه منزل بقرب مقبرة قريش ، فعزم عليه في الميل إليه ، فنزل وأحضر له طعاما ، وغنّت جارية : [الكامل]
طابت بطيب لثاتك الأقداح |
|
وزها بحمرة وجهك التفاح (٢) |
وإذا الربيع تنسّمت أرواحه |
|
نمّت بعرف نسيمك الأرواح |
وإذا الحنادس ألبست ظلماءها |
|
فضياء وجهك في الدّجى مصباح (٣) |
فكتبها القاضي طربا على ظهر يده.
قال الراوي : فلقد رأيته يكبّر على الجنازة والأبيات على ظهر يده.
ومن حكاياتهم في البلاغة : ما ذكره في «المطمح» أن أبا الوليد بن عيال (٤) لمّا انصرف من الحجّ اجتمع مع أبي الطيب في مسجد عمرو بن العاص بمصر ، ففاوضه قليلا ، ثم قال له : أنشدني لمليح الأندلس ، يعني ابن عبد ربه ، فأنشده : [الكامل]
يا لؤلؤا يسبي العقول أنيقا |
|
ورشا بتعذيب القلوب رفيقا |
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله |
|
درّا يعود من الحياء عقيقا |
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه |
|
أبصرت وجهك في سناه غريقا (٥) |
يا من تقطّع خصره من رقّة |
|
ما بال قلبك لا يكون رقيقا |
فلما كمل إنشادها استعادها ، ثم صفّق بيديه وقال : يا ابن عبد ربه ، لقد تأتيك العراق حبوا ، انتهى.
__________________
(١) انظر الجذوة ص ٧٠.
(٢) في ب : «وزهت بحمرة وجهك التفاح».
(٣) الحنادس : جمع حندس ، وهو الليل الشديد الظلمة.
(٤) في ج : «أن الوليد بن عقال» وفي المطمح «أن الوليد بن عباد».
(٥) سناه : ضوؤه.