وكان في مدة الناصر ، وأدخل عليه يوما ليذاكره ، فاستحسنه ، وأمره بالتزام بنيه ليؤدّبهم بحسن أدبه ، ويتخلّقوا بخلقه ، فاستعفى من ذلك ، وقال : إنّ الفتيان لا يتعلّمون إلّا بشدّة الضبط والقيد والإغلاظ ، وأنا أكره أن أعامل بذلك أولاد الخليفة فيكرهوني ، وقد يحقد لي بعضهم ذلك إلى أن يقدر على النفع والضرر.
قالوا : وكان يتعشّق المستنصر بالله ولي عهد الناصر وهو غلام ، وله فيه : [المجتث]
متّع بوجهك جفني |
|
يا كوكبا فوق غصن |
يا من تحجّب حتى |
|
عن كلّ فكر وأذن |
وخامر الخوف فيه |
|
فما يمر بذهن (١) |
فليس للطّرف والقل |
|
ب غير دمع وحزن |
فإنني ذو ذنوب |
|
وأنت جنّة عدن |
وقال أخوه أحمد بن هشام : [الطويل]
قطعت الليالي بارتجاء وصالكم |
|
وما نلت منكم غير متّصل الهجر |
وما كنت أدري ما التصبّر قبلكم |
|
فعلّمتموني كيف أقوى على الصبر |
وما كنت ممّن يعلق الصبر فكره |
|
ولكن خشيت الصبر يذهب بالعمر |
ومن حكاياتهم في علوّ الهمة : أنه كان سبب قراءته واجتهاده أنه حضر مجلسا فيه القائد أحمد بن أبي عبدة ، وهو غلام ، فاستخبره القائد ، فرآه بعيدا من الأدب والظّرف ، ورأى له ذهنا قابلا للصلاح ، فقال : أيّ سيف لو كانت عليه حلية؟ فقامت من هذه الكلمة قيامته ، وثابت له همّة ملوكيّة عطف بها على الأدب والتعلّم (٢) ، إلى أن صار ابن أبي عبدة عنده كما كان هو عند ابن أبي عبدة أولا ، فحضر بعد ذلك معه ، وجالا في مضمار الأدب ، فرأى ابن أبي عبدة جوادا لا يشقّ غباره (٣) ، فقال : ما هذا؟ أين هذا مما كان؟ فقال : إن كلمتك عملت في فكري ما أوجب هذا ، فقال : والله إنّ هذه حلية تليق بهذا السيف ، فجزاك الله عن همّتك خيرا!.
ثم قال له : سر ، إنّ لي عليك حقا إذ بعثتك على التأدّب والتميز ، فإذا حضرنا في جماعة فلا تتطاول على تقصيري ، وحافظ على أن لا أسقط من العيون بإرباء (٤) غيري عليّ ، فقال : لك ذلك وزيادة.
__________________
(١) في ب ، ه : «فما يجول بذهن».
(٢) في ه : «على الأدب والتعليم».
(٣) لا يشق غباره : أي لا يسبق ولا يجارى.
(٤) الإرباء : الزيادة ، من الفعل أربى.