وكان المنذر ابن الأمير عبد الرحمن الأوسط سيىء الخلق في أول أمره ، كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة ، مفرط القلق ممّا يقال في جانبه ، معاقبا على ذلك من (١) يقدر على معاقبته ، مكثر التشكّي ممّن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن ، فطال ذلك على الأمير ، فقال لوكيل خاصّ به عارف بالقيام بما يكلّفه به : الموضع الفلاني الذي بالجبل الفلاني المنقطع عن العمران تبني (٢) فيه الآن بناء أسكن فيه ابني المنذر ، وأوصاه بالاجتهاد فيه ، ففرغ منه ، وعاد إليه ، فقال له : تعلم المنذر أني أمرته بالانفراد فيه ، ولا تترك أحدا من أصحابه ولا أصحاب غيره يزوره ، ولا يتكلّم معه البتّة ، فإذا ضجر من ذلك وسألك عنه فقل له : هكذا أمر أبوك ، فتولّى الثقة ذلك على ما أمر به ، ولمّا حصل المنذر في ذلك المكان وبقي وحده ، وفقد خوله ومن كان يستريح إليه (٣) ، ونظر إلى ما سلبه من الملك ضجر ، فقال للثقة : عسى أن يصلني غلماني وأصحابي أتأنّس بهم ، فقال له الثقة : إنّ الأمير أمر أن لا يصلك أحد وأن تبقى وحدك لتستريح ممّا يرفع لك أصحابك من الوشاية ، فعلم أن الأمير قصد محنته بذلك (٤) وتأديبه ، فاستدعى دواة وكتب إلى أبيه : أني قد توحّشت في هذا الموضع توحّشا ما عليه من مزيد ، وعدمت فيه من كنت آنس إليه ، وأصبحت مسلوب العزّ فقيد الأمر والنهي ، فإن كان ذلك عقابا لذنب كبير ارتكبته وعلمه مولاي ولم أعلمه فإني صابر على تأديبه ، ضارع إليه في عفوه وصفحه : [الطويل]
وإنّ أمير المؤمنين وفعله |
|
لكالدهر ، لا عار بما فعل الدهر |
فلمّا وقف الأمير على رقعته ، وعلم أنّ الأدب بلغ به حقّه ، استدعاه فقال له : وصلت رقعتك تشكو ما أصابك من توحّش الانفراد في ذلك الموضع ، وترغب أن تأنس بخولك وعبيدك وأصحابك ، وإن كان لك ذنب يترتّب عليه أن تطول سكناك في ذلك المكان ، وما فعلت ذلك عقابا لك ، وإنما رأيناك تكثر الضجر والتشكي من القال والقيل ، فأردنا راحتك بأن نحجب (٥) عنك سماع كلام من يرفع لك وينمّ ، حتى تستريح منهم ، فقال له : سماع ما كنت أضجر منه أخفّ عليّ من التوحّد والتوحّش والتخلّي ممّا أنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي ، فقال له : فإذ قد عرفت وتأدبت فارجع إلى ما اعتدته ، وعوّل على أن تسمع كأنك لم تسمع ،
__________________
(١) في ب ، ه : «معاقبا على ذلك لمن يقدر على معاقبته» وما أثبتناه أقوى.
(٢) في ه : «نبني فيه».
(٣) في أ : «يستريح معه».
(٤) المحنة : الاختبار والابتلاء.
(٥) في ه : «بأن يحجب عنك».